لقرونٍ طويلة، شغلَت تلك الدوامات الرمادية الشاحبة على وجه القمر خيالات المهتمين بعلم الفلك من الهواة والمتخصصين. ومنذ أن لوحظَت لأول مرة في عصر النهضة، ظلَّت هذه التموُّجات العملاقة (الممتدة لأميال عدة) مُتَّشِحَةً بالغموض حتى أيامنا هذه، وقد كان هناك اعتقادٌ سائد يوماً بأنها مرتفعات أو جبال حتى لاحظ الفلكيون أنها لا تُلقي بأية ظلالٍ حولها فتخلوا عن اعتقادهم هذا على الفور.
لكن "أرتميس" (وهو اسم ربة القمر في الميثولوجيا الإغريقية، والاسم الذي اختارته ناسا لمهمة فضائية أرسَلَت فيها قمرين صناعيين للدوران حول القمر وجمع المعلومات عن التفاعلات بين الشمس والقمر) أرسلَت لنا ببيانات جديدة تكشف السر الذي أخفاه القمر طويلاً عن عيون البشر المتطفلة.
يبدأ كل شيء – كالكثير من الأشياء في هذا العالم – من عند الشمس، تلك الكرة الهائلة من الغاز والبلازما التي تتلظَّى باللهيب، فتُرسل في محيطها وإلى أتباعها من الكواكب أمواجاً بلا نهاية من الإشعاع والجُسيمات المشحونة، في المزيج الذي يُعرَف بالرياح الشمسية. هذه الرياح الشمسية يُمكن أن تمثِّل خطورة حقيقية لنا معشر البشر؛ مِن أمراضٍ معوية ودورية وعصبية إلى سرطان الجلد. لكن المجال المغناطيسي للأرض يحمينا من مثل تلك التأثيرات المروِّعة للرياح الشمسية في كامل قوَّتها وعنفوانها.
أما القمر، صديقنا المسكين، فلا تُغَلِّفهُ مثل هذه الفقاعة الحامية (بشكل كامل على الأقل)، وهكذا فإن الرياح الشمسية ضربَت وجهه الأبيض بلا هوادة - لأزمانٍ بالغة الطول - حتى حالَ لونُه. ربما باستثناء تلك الدوامات المعدودة الغامضة.
وبفضل البيانات القادمة من قمريّ "أرتميس" الصناعيين، لاحظ العلماء أن هذه الدوامات البيضاء استترَت من الرياح الشمسية خلف دروعِ مجالات مغناطيسية محدودة. وقد جاء في تصريح صحفي من "ناسا" أن بعض صخور القمر لديها خواصٌّ مغناطيسية تسبَّبَت في تخليق هذه المجالات المغناطيسية التي حالت دون وصول الرياح الشمسية إلى بقع قليلة العدد - لكنها كبيرة المساحات - من سطح القمر. يقول (أندرو بوب) الباحث بجامعة كاليفورنيا في التصريح الصحفي لناسا: "يشبه تأثير المجالات المغناطيسية في بعض المناطق تماماً تأثير الواقيات الشمسية".
يشبه الأمر أن تذهب إلى الشاطئ بصحبة أصدقائك ويرسم واحد منهم - مُداعِباً - على يدك مثلاً وجهاً مبتسماً باستخدام إحدى مستحضرات الوقاية الشمسية، فتكتسب يدك كلها سُمرة التعرض للشمس ما عدا ذلك الوجه المبتسم الذي ستراه، بعد فترةٍ، محتفظاً بلون بشرتك قبل أن تلوحها الشمس. ما يحدث لبشرة يدك مع الواقي الشمسي هو بالضبط ما يحدث لسطح القمر مع المجالات المغناطيسية التي تنشأ بفعل صخور القمر المُمَغنَطة: تلوح أشعة الشمس كل ما تطاله، عدا ما اختبأ منها خلف الدروع الواقية. وعلى وجه القمر ترسم المجالات المغناطيسية تلك البقع الشاحبة على شكل دوّامات مثيرة للخيال.
والنتيجة هي ما يظهر في الصورة أعلاه: دوامة قمرية، مثل "رينر جاما" التي يذكرك شكلها بالشرغوف (صغير الضفادع) وتمتد بقُطر 43 ميلاً تقريباً. رغم هذا، ليست فقاعات المجالات المغناطيسية – مثل تلك المحيطة برينر جاما – منيعةً بما يكفي لحماية زوار القمر من البشر من الرياح الشمسية العاتية. لكن دراسة الطريقة التي تعمل بها وفهمها قد تُلهم العلماء بأفكارٍ جديدة لحماية رواد الفضاء المتجهين إلى القمر في المستقبل القريب، خاصةً مع إعلان ناسا عن نواياها في زيارة جارنا الفضائي الأقرب، خلال العِقد القادم.