نميز الأرض على أنها الكوكب الأزرق، ولكنها ليست الكوكب المائي الوحيد في محيطنا الفضائي. قد تكون المحيطات مخفية تحت طبقات سميكة من الجليد على أقمار تدور حول المشتري، وزحل، ونبتون، وعلى الكواكب القزمة مثل بلوتو وإيريس. حتى أن قمر زحل تيتان يزخر ببحار سائلة على سطحه، على الرغم من أنها مليئة بالميثان أكثر من الماء.
إذا كان هناك مكان ما من نظامنا الشمسي يحمل علامات على وجود الحياة، فمن المرجح أن يكون من بين هذه العوالم المتجمدة. ويبدو أن العلماء مصممون على استكشاف البحار البعيدة الواقعة على تيتان وقمر المشتري أوروبا، وهم يعملون على تصميم مركبات جوالة يمكنها التشبث بالجليد وغواصات لسبر أعماقها الغامضة. سيتعين عليها التعامل مع البرد القارس، والسوائل التي تختلف في سلوكها عن المياه التي اعتدنا على التعامل معها على كوكب الأرض، إضافة إلى الظروف البيئية القاسية الأخرى.
إليكم فيما يلي كيف ستقوم هذه الروبوتات الجبارة باستكشاف نمطين مختلفين للغاية من بحار العوالم الفضائية.
الطواف في أعماق البحار الغازية
خلال بعثتها لاستكشاف زحل وأقماره، تمكنت المركبة الفضائية كاسيني من اكتشاف المئات من البحيرات الصغيرة على سطح تيتان، بالإضافة إلى 3 بحار شبيهة بالبحيرات الكبرى من حيث الحجم والعمق.
كمان أن تيتان يمتلك جليداً مائياً على سطحه ومحيطاً مائياً من المرجح أن يكون قابعاً تحت قشرته السطحية. ولكن بحار الميثان فيه مثيرة للاهتمام لأنها تشكل جزءاً من عملية تشبه دورة الماء التي لدينا هنا على الأرض. وكما هو الحال على كوكبنا، تتبخر السوائل على تيتان انطلاقاً من بحاره، لتشكل السحب وتعود على شكل أمطار من جديد. يرغب الباحثون بمعرفة المزيد عن كيفية عمل دورة الميثان هذه. والأكثر من ذلك، فإن تيتان لديه كميات وافرة من مركبات الكربون والنتروجين التي يمكنها أن تدعم مقومات الحياة؛ حيث يأمل العلماء بالتحقق من وجود أشكال للحياة ربما تمكنت من التطور بالاعتماد على الميثان السائل بنفس الطريقة التي تعتمد فيها أشكال الحياة الأرضية على الماء.
قررت ناسا النظر في إرسال عوامة يمكنها أن تسبر أغوار بحار تيتان. تتمثل العقبة الوحيدة بأن هذه الكبسولة ستكون تحت رحمة الرياح والتيارات الجارفة.
يقول رالف لورينز، عالم الكواكب في مختبر الفيزياء التطبيقية في جامعة جونز هوبكينز في مدينة لوريل بولاية ميريلاند، في رسالة له بالبريد الإلكتروني: "من المرجح أن العوامة التي تصطدم بأحد الشواطئ ستبقى راسية على البر، وقد يعيدها المد إلى عرض البحر من جديد". إلا أنه ليس هناك ضمانات بأن المد سيعيدها إلى البحر.
ومن ناحية أخرى، يمكن للغواصة أن تحدد مسارها الخاص وتكون قادرة على الاستكشاف تحت سطح البحر وأخذ عينات من الرواسب في قاع البحر. حيث تأمل ناسا في إرسال غواصة إلى تيتان في السنوات العشرين القادمة.
تتراوح درجات الحرارة في بحار تيتان حول 179 درجة مئوية تحت الصفر، وسيكون المولّد عاملاً رئيسياً في الحفاظ على العناصر الإلكترونية في الغواصة دافئة أثناء طوافها، حيث سيعتمد هذا المولد في عمله على الحرارة الناجمة عن تحلل المواد المشعة مثل البلاتينيوم.
إن التعامل مع الظروف شديدة البرودة على تيتان "يحتاج إلى هندسة دقيقة، لا إلى معجزات فيزيائية" حسبما يقول لورينز، وهو المصمم الرئيسي للغواصة. ويضيف: "إن الحرارة المتبددة التي تطلقها مصادر الطاقة التي تعمل بالنظائر المشعة تمثل جزءاً أساسياً من ذلك، إلى جانب بعض الخيارات الدقيقة من العزل الرغوي".
والتحدي الآخر هو أننا لا نعلم بدقة ما هو التركيب الكيميائي لبحار تيتان. فهي تتكون بشكل رئيسي من الميثان، الذي يشبه الغاز الطبيعي السائل الموجود على سطح الأرض، وكميات أصغر من الإيثان السائل، وغاز النيتروجين المُذاب.
ولكن النسبة الدقيقة التي تمثل كلاً من هذه المكونات غير واضحة، وقد تختلف قليلاً من بحر لآخر على تيتان. ولذلك يعمل المشروع على تصميم غواصة يمكنها التجول في مساحات شاسعة من السوائل التي لم يتم بعد تحديد كثافتها ولزوجتها على وجه الدقة.
ويولي المهندسون اهتماماً خاصاً بالنيتروجين المنتشر في بحار تيتان، والذي يمكن له أن يشكل فقاعات قد تعترض مسار الغواصة في تجوالها. قد يحدث هذا الأمر بينما تتسرب كميات من الحرارة المتبددة من مولد السفينة إلى الوسط المحيط بها. يقول جيسون هارتويج في هذا الصدد، وهو مهندس الدفع بالتبريد في مركز جلين للأبحاث التابع لناسا في كليفلاند: "هذه الحرارة لا تكفي لغليان السائل المحيط بالغواصة، ولكننا نعتقد أنها كافية لإخراج النيتروجين المُنحلّ في الوسط السائل".
يمكن للمروحة الدافعة للغواصة أيضاً أن تشكل موجات من الفوران الغازي وهي تشق طريقها عبر الوسط السائل. حيث يقول هارتويج إن خلف كل شفرة من شفرات المروحة يوجد قليل من الفراغ. وهذا الانخفاض الحاصل في الضغط يمكنه أن يمنح الفقاعات الفرصة لكي تتشكل، بشكل مشابه لفوران علبة المياه الغازية عندما يتم فتحها.
يمكن لكل تلك الفقاعات الصغيرة أن تتسبب بحدوث اثنتين من المشاكل الكبرى. أولاً، قد تعرقل عمل المعدات العلمية التي تحملها الغواصة، ما يزيد من صعوبة قياس الأعماق وغيرها من الشروط. وثانياً، وهو الأمر الأكثر إثارة للقلق، قد تمنع الفقاعات مراوح الغواصة الدافعة من العمل بشكل صحيح.
يقول هارتويج: "إن كنا نحاول الانتقال من موقع إلى آخر عبر البحار، فهل ستتجمع كل تلك الفقاعات عند مؤخرة الغواصة؟". ويضيف: "ستحاول عندها تدوير المراوح ولن تتحرك المركبة، ستبقى بلا حراك رغم دوران المراوح".
ويتابع هارتويج شرحه قائلاً: "إن مشكلة الموجات الفوارة هذه لا تشكل عاملاً مؤثراً بالنسبة للمركبات الغاطسة على الأرض، لأن كمية الهواء التي يمكنها الانحلال في الماء تعد ضئيلة للغاية". ويضيف: "إن الضغط أعلى على تيتان، ونظراً لأن السائل أكثر برودة فإن كمية الغاز المنحلة فيه تكون أكبر، وهذا يعني إمكانية انطلاق المزيد من الغاز منه عند تحريكه".
نظراً لأننا لا نعرف بدقة التركيب الكيميائي للبحار على تيتان، فليس هناك ما يؤكد كميات النيتروجين التي تحويها. ولفهم ما قد تواجهه الغواصة بشكل أفضل، قام هارتويج وزملاؤه في جامعة ولاية واشنطن بمحاكاة التركيب المكون لبحار تيتان هنا على الأرض.، حيث قاموا بملء حجرة اختبارية بخلائط مختلفة من الميثان والإيثان والنيتروجين المذاب في درجات من الحرارة والضغط مماثلة لتلك الموجودة على تيتان، ثم أضافوا جهازاً صغيراً للتسخين لمحاكاة الحرارة التي يمكن أن تصدر عن غواصة فعلية.
أسفرت التجربة عن خبر سار: إذا توقفت الغواصة عن الحركة لجمع العينات، فقد لا يكون هناك ما يدعو إلى القلق. حيث من المحتمل ألا تصدر ما يكفي من الحرارة لتشكيل الكميات اللازمة من الفقاعات لإعاقة عمل معداتها العلمية، وذلك حسبما أفاد الفريق في فبراير الماضي في مجلة Fluid Phase Equilibria. ومع ذلك، يقول هارتويج: "لا يزال استبعاد مشكلة المراوح أمراً غير وارد بالنسبة لنا". وهو يعتزم تكرار التجربة بوجود المروحة بدلاً من جهاز التسخين، لمعرفة كمية الفقاعات التي يمكن للسفينة أن تواجهها أثناء سيرها عبر بحار تيتان.
يمكن للغواصة التي سنقوم بإرسالها إلى تيتان أن يكون لها نفس الشكل الطويل والنحيل الذي اعتدنا رؤيته هنا على الأرض. وفقاً لهارتويج، يمكن لهذا النوع من المركبات أن يزن نحو 1,180 كيلوجراماً، وأن يبلغ طوله نحو 6 أمتار. ومع ذلك، يتوجب عليها العودة إلى سطح البحر للاتصال مع الأرض. كما أنه يتوجب عليها الانتظار حتى العقد الخامس من القرن الواحد والعشرين لكي تصل إلى وجهتها، حيث تكون الأرض عندها قد أصبحت مرتفعة بما يكفي فوق خط الأفق الخاص بتيتان لكي تحصل الغواصة على خط مباشر للرؤية (والاتصال) مع كوكبنا الأرضي.
كما أن ناسا تنظر في إرسال غواصة أصغر حجماً على شكل سلحفاة. حيث سيتم اقتران "سلحفاة تيتان" هذه مع مركبة مدارية لنقل المعلومات إلى الأرض. يمكنها التواصل بينما تغمرها السوائل، ويمكن إطلاقها قبل بضع سنوات من غيرها لأنها لن تكون بحاجة للاعتماد على موقع الأرض في الفضاء.
يقول هارتويج أن تيتان فريدٌ من نوعه بين العوالم المائية. فليس هناك مكان آخر في النظام الشمسي يتضمن بحاراً سائلة يمكن الوصول إليها بسهولة. ولكن غواصة تيتان قد تشكل مصدراً ملهماً لتصميمات السفن المستقبلية التي ستقوم باستكشاف البحار القابعة تحت القشرة الجليدية على الأجرام الفضائية الأخرى. يقول هارتويج: "لطالما نظرت إلى تيتان على أنه دليل للملاحة".
تحت الجليد
تقع إحدى تلك البحار التي يصعب الوصول إليها على أوروبا. وعلى الرغم من أن سطح القمر أجرد ومعرض للإشعاعات من الحقل المغناطيسي للمشتري، ناهيك عن حرارته التي تبلغ حوالي 138 درجة مئوية، فإن المحيط في الأسفل محمي بطبقة جليدية تبلغ سماكتها وسطياً ما بين 8 كيلومتر و 24 كيلومتر، ونظراً لأن هذا المحيط يتكون من المياه، فهو مكان مشجع للبحث عن الحياة ودراسة الظروف الكيميائية التي تحتاجها حتى تنشأ.
يعمل العلماء على اختبار روبوتات قادرة على اختراق الجليد إما بالحرارة أو الحفر، وذلك لفتح طريق في هذا الحاجز الجليدي. يمكن لهذه الروبوتات أن تحمل الغواصات، أو عربات جوالة تتحرك على الجهة السفلية من الجليد، أو حتى مسابر ثابتة تستقر على قعر المحيط. وما أن تصل هذه الآلات بأنواعها إلى المياه، حتى تتعرض على الأغلب لدرجة حرارة منعشة تساوي الصفر تقريباً. يقول أندي كليش، مهندس في مختبر الدفع النفاث التابع لناسا في باسادينا بكاليفورنيا: "في الواقع، فإن هذه البيئة مريحة نوعاً ما بالنسبة للتجهيزات الإلكترونية. غير أن المياه المالحة تقلقنا بعض الشيء".
قد تكون بحار أوروبا بملوحة بحارنا، وربما أكثر، كما يقول كيفن هاند، وهو عالم كواكب في مختبر الدفع النفاث: "توجد مشكلة إضافية، وهي أرجحية وجود نسبة من حمض الكبريت في المياه". وهو ما يعني تعرض الإلكترونيات في المسبار لخطر التآكل. إضافة إلى هذا، سيتعرض الروبوت إلى ضغوط هائلة عندما يغوص في الأعماق، وقد تبلغ قيمة الضغط عند قعر المحيط ما يساوي الضغط عند قعر خندق ماريانا في المحيط الهادي.
بشكل عام، ستكون الرحلة إلى بحار أوروبا عصيبة للغاية. يقول كليش: "أمامنا أيضاً تحديات اكتشاف أعماق الفضاء إضافة إلى مصاعب استكشاف أعماق المحيطات. يجب أن نتعامل مع الخلاء في الفضاء، والضغط العالي تحت الجليد، إضافة إلى التعرض للإشعاع أثناء المغادرة. وعلى الرغم من أن الآلات محمية من الإشعاع تحت الجليد، فإن البيئة بأكملها ستتسبب لها بالتآكل طوال الوقت".
يقول كليش أن أسهل مكان في هذه الرحلة هو الجهة السفلية من الجليد، وهو يعمل بالاشتراك مع هاند ومجموعة من الزملاء على تصميم عربة جوالة قادرة على التحرك على هذا السطح، بحيث لا تتعرض لتأثيرات التيارات المائية، كما سيحصل مع الغواصة على الأغلب. يقول كليش: "قد تكون هذه العربات الجوالة والمسابر الثابتة أفضل طريقة للاستكشاف بأسلوب يخضع لسيطرة كاملة، بدلاً من أن تُقذف عشوائياً في جميع الاتجاهات وتتعرض للصدمات". إضافة إلى هذا، فإن السطح السفلي للجليد مكان جيد للبحث عن الحياة، حيث أن الميكروبات والطحالب على الأرض تحب أن تتشبث بالسطح السفلي للجليد، وإذا كانت الحياة موجودة على أوروبا، فقد تنجذب أيضاً إلى مكان مشابه.
يتحرق كليش وفريقه شوقاً للبدء برحلة الصيد هذه، وقد كانوا يختبرون عربتهم (المعروفة حالياً باسم بروي، اختصاراً لعبارة العربة الطوافة للاستكشاف تحت الجليد) في بحيرات ألاسكا المتجمدة. تحمل دواليب هذه العربة مناشير دائرية وصفائح صغيرة تلعب دور مخالب ثلجية، بحيث توزع وزن العربة على أكبر مساحة ممكنة، وتمنع بروي من أن تخترق الجليد وتعلق في مكانها.
من المرجح أن عربة بروي التي ستزور أوروبا ستكون محمولة على متن روبوت سيخترق الجليد وصولاً إلى الماء. وهذا يعني أنها يجب أن تكون صغيرة للغاية، بطول لا يتجاوز 45.7 سنتمتر، كما يقول كليش، الذي يخطط قريباً لاختبار بروي بعد تزويدها بدواليب متغيرة السماكة، ما يقلل من حجمها ويسهل من عملية حملها ونقلها. كما يأمل الفريق أيضاً أن يرسل بروي في أخطر مهمة لها حتى الآن،
وهي عبارة عن رحلة بدون خط ربط إلى عمق 304 متر تقريباً تحت سطح الجليد.
من المفترض، حتى تتحرك العربة بحرية كاملة على أوروبا، أن تعمل بدون خط ربط. يقول كليش: "لقد رغبنا بقطع خط الربط على الأقل مرة واحدة خلال كل تجربة ميدانية". وعلى الرغم من أن خط الربط قد يعلق أو يؤثر على الحركة، فقد يكون ضرورياً لتأمين الطاقة والاتصالات مع المعدات على السطح.
يبحث كليش وفريقه أيضاً عن مجموعة من الطرق السهلة للوصول إلى المحيط. فقد استخدموا الغواصات لاستكشاف الآبار الجليدية –وهي حفر حادة الارتفاع ومغمورة بالمياه ضمن الصفائح الجليدية- في ألاسكا. وفي الصيف الماضي، وصل روبوتهم إلى عمق حوالي 48.76 متر تحت الجليد، وتمكن من العثور على مواضع الاتصال بين أنفاق مختلفة. من المحتمل وجود آبار جليدية في القشرة الجليدية لأوروبا، بحيث يمكن للغواصة أو العربة أن تستخدمها لقطع جزء من المسافة ضمن الجليد.
ما زال هناك الكثير مما يجب فعله قبل أن تصبح العربة جاهزة للانطلاق إلى أقمار المشتري وما بعدها. ويأمل كليش أن البعثتين المقررتين إلى أوروبا، أوروبا كليبر وأوروبا لاندر، ستمهدان الطريق لإرسال مسبار إلى ما تحت الجليد.
في هذه الأثناء، يمكن استخدام هذه العربات حتى نتعلم المزيد عن كوكبنا. وقد بدأ استخدام بروي لاستطلاع الميثان الذي يطلقه ذوبان التربة الصقيعية في البحيرات القطبية في القطب الشمالي. وفي الخريف المقبل، ستمكث العربة المقدامة لفترة ثلاثة إلى أربعة أشهر في تلك المياه الباردة.
يقول هاند: "الهدف العلمي لهذه المهمة هو ترك العربة تحت جليد البحيرات لمراقبة التغيرات الموسمية مع تشكل الجليد وتراكمه فوق تلك المياه الغنية بالميثان، أثناء غروب الشمس وبدء الظلام في الشتاء". يمكن بهذه الطريقة أيضاً معرفة ما سيحدث للعربة إن تجمدت في مكانها مع ازدياد سماكة الجليد من حولها. كما أنها فرصة للحصول على بعض المعلومات حول بيئة قاسية لدرجة لا تسمح للبشر بدراستها بشكل مباشر.
يقول كليش: "تحوي الأرض على أكبر عالم من المحيطات على الإطلاق. وقد بدأنا هنا على الأرض بتطبيق التقنيات التي نخطط لاستخدامها في استكشاف أوروبا، لسبر أغوار مناطق لم نكن قادرين على الوصول إليها حتى الآن".