في عام 2018، لاحظ علماء الفلك الذين قاموا بدراسة الحطام الناجم عن تصادم نجمين نيوترونيين من خلال فحص الصور التي التقطها تلسكوب هابل الفضائي شيئاً غريباً، وهو دفقات من الأيونات الساطعة عالية الطاقة التي تم إصدارها من موقع التصادم تتحرك تجاه كوكب الأرض بسرعة تبلغ 7 ضعاف سرعة الضوء.
اعتقد العلماء أن هناك خطأ ما في الرصد. لذلك، قاموا بإعادة حساباتهم باستخدام أرصاد قام بها تلسكوب راديوي آخر. لاحظ العلماء من خلال دراسة هذه الأرصاد أن هذه الدفقات تحرّكت بسرعة بلغت 4 أضعاف سرعة الضوء فقط.
الحركة مفرطة اللمعية
ولكن لم يبدُ ذلك منطقياً بالنسبة لهم أيضاً؛ لا يمكن أن تتحرك الأجسام في الكون بسرعة تتجاوز سرعة الضوء. بيّنت دراسة نُشرت في 12 أكتوبر/ تشرين الأول 2022 في مجلة نيتشر أن هذه الظاهرة كانت مجرد وهم.
اقرأ أيضاً: هل كنا نقيس قوة الجاذبية الأرضية بطريقة خاطئة؟
تحمل الظاهرة التي تبدو فيها الأجسام وكأنها تتحرك بسرعة تتجاوز سرعة الضوء اسم الحركة مفرطة اللمعيّة. يعني اسم هذه الظاهرة "ما يتجاوز الضوء"، وهو يصف الدفقات الأيونية بدقة. مع ذلك، يعبّر هذا الاسم عن الظاهرة التي تبدو فيها الأجسام التي تتحرك تجاه مراقب ما أسرع بكثير مما هي في الحقيقة. هناك دفقات عالية الطاقة في الفضاء تبدو أنها تتحرك بسرعة أكبر من سرعة الضوء. ورصد العلماء في الفترة الأخيرة الكثير منها.
يقول عالم الفلك في معهد علوم التلسكوبات الفضائية في ولاية ماريلاند الأميركية، جاي أندرسون (Jay Anderson)، والذي عمل لوقت طويل مع فريق تلسكوب هابل وساهم في تأليف الدراسة التي نُشرت في مجلة نيتشر: "يبدو أن هذه الدفقات تتحرك عبر السماء بسرعة هائلة، لكن تكمن الفكرة في أنها تتحرك نحو المراقب وعبر الفضاء في نفس الوقت".
لحساب السرعة الحقيقية لهذه الدفقات، قارن أندرسون وزملاؤه بين الأرصاد التي قام بها تلسكوب هابل وتلك التي قام بها التلسكوب الراديوي الآخر. وفي النهاية، قدّر الباحثون أن هذه الدفقات كانت تتحرك نحو الأرض مباشرة بسرعة تبلغ 99.95% من سرعة الضوء. هذه السرعة قريبة للغاية من سرعة الضوء، ولكنها أصغر منها وضوحاً.
ما تزال نظرية النسبية الخاصة صامدة
حسب نظرياتنا الحالية، لا يمكن لأي جسم في الكون التحرك بسرعة تتجاوز سرعة الضوء. وتم إثبات هذه الحقيقة مراراً وتكراراً من خلال قوانين نظرية النسبية الخاصة التي توصل إليها ألبرت أنشتاين قبل قرن من الزمن. يتحرّك الضوء في الخلاء بسرعة تبلغ 300 ألف كيلومتر في الثانية. وتعتبر سرعة الضوء السرعة الحديّة في الكون. بالإضافة إلى ذلك، تنص قوانين النسبية الخاصة على أن سرعة الضوء ثابتة بغض النظر عن المراقب.
مع ذلك، لا تمنع هذه القوانين تحرك الأجسام بسرعة قريبة للغاية من سرعة الضوء. وتعتبر الأشعة الكونية والجسيمات الموجودة في التوهّجات الشمسية بعض الأمثلة على ذلك. وهنا تدخل الحركة مفرطة اللمعية المعادلة. عندما يتحرك جسم ما تجاه مراقب، تقل المسافة التي يجب على الضوء (وبالتالي صورة الجسم) قطعها حتى يصل إلى هذا المراقب. في الحياة اليومية، لا يؤثر ذلك على السرعة التي يقيسها المراقب؛ إذ إنه حتى الأجسام السريعة للغاية، مثل الطائرات، تتحرك بسرعة أقل بكثير من سرعة الضوء.
اقرأ أيضاً: هل يسير أي شيء في الكون بسرعة أكبر من سرعة الضوء؟
ولكن عندما يتحرك جسم ما بسرعات عالية تجاه مراقب، تقل المسافة بينه وبين هذا المراقب (سواء كان إنساناً أو كاميرا) بسرعة كبيرة. يتسبب ذلك في توهم المراقب بأن الجسم يتحرّك بسرعة أكبر من سرعته الحقيقية. لا تستطيع عيون البشر وعدسات التلسكوبات تحسس هذه الظاهرة، ما يعني أن علماء الفلك يضطرون لحساب السرعة الحقيقية للأجسام من البيانات التي يتم تجميعها على شكل صور.
ظاهرة رُصدت قبل قرن من الزمن
لم يكن مؤلفو الدراسة سابقة الذكر أول من لاحظ ظاهرة الحركة مفرطة اللمعية. في الواقع، بدأ الباحثون في ملاحظة هذه الظاهرة قبل قرن من الزمن. في عام 1901، رصد علماء الفلك الذين كانوا يراقبون السماء مستعراً في اتجاه كوكبة حامل رأس الغول. تشكّل هذا المستعر من بقايا نجم قزم أبيض امتص الطبقات الخارجية لكوكب غازي عملاق قريب. ما تسبب بإصدار ضوء ساطع لدرجة جعله مرئياً بالعين المجردة. رصد علماء الفلك في ذلك الوقت فقاعة منتفخة تصدر من هذا المستعر بسرعة هائلة. ولكن نظراً لأن أينشتاين لم يكن قد طور نظرية النسبية العامة بعد، تجاهل العلماء هذا الحدث.
حظيت هذه الظاهرة بالاهتمام مجدداً بحلول سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. وعندها، كان علماء الفلك يرصدون العديد من الأجسام عالية الطاقة والتي يمكن أن تصدر دفقات سريعة من المواد في مناطق بعيدة من الكون، مثل النجوم الزائفة (الكوازارات) والمجرات النشطة. في أغلب الحالات، تسببت الثقوب السوداء بإصدار هذه الدفقات عالية الطاقة والتي تحركت بسرعات تقترب للغاية من سرعة الضوء. يمكن أن تقطع هذه الدفقات آلاف أو مئات آلاف أو حتى ملايين السنين الضوئية للوصول إلى الأرض. ويعتمد ذلك على كتلة الثقوب السوداء.
في نفس الفترة تقريباً (سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي)، بدأ العلماء الذي كانوا يدرسون الأمواج الراديوية برصد ما يكفي من الأجسام السريعة لإثارة اهتمام المجتمع العلمي. حتى إنهم رصدوا دفقة صادرة عن مجرة بعيدة بدت وكأنها تتحرك بسرعة تبلغ 10 أضعاف سرعة الضوء. أثارت هذه الأرصاد اهتمام علماء الفلك بقدر لا يستهان به، على الرغم من أن الآلية التي تفسّرها كانت مفهومة بشكل جيد في تلك الفترة.
في العقود التي تلت ذلك، رصد علماء الفلك ظاهرة الحركة مفرطة اللمعية بشكل متزايد. رصد علماء الفلك عدداً كبيراً من الدفقات باستخدام التلسكوبات، وخصوصاً تلك التي تحوم في الفضاء مثل تلسكوب هابل أو تلسكوب جيمس ويب الفضائي. تزداد دقة أرصاد التلسكوبات عندما تلتقط الضوء قبل أن يمر عبر الغلاف الجوي الأرضي. يساعد ذلك الفرق البحثية التي تدير عمل التلسكوبات على رصد المزيد من الدفقات الأبعد، مثل تلك التي تصدرها المجرات القديمة والبعيدة. كما أنه يساعدهم على رصد الدفقات الأقرب إلى الأرض بدقة أكبر. يقول أندرسون: "تبدو الأجسام في الصور التي يلتقطها تلسكوب هابل أوضح بكثير من تلك التي تلتقطها التلسكوبات الأرضية".
اقرأ أيضاً: تلسكوب هابل يرصد اندماج ثلاث مجرات في حدث عنيف
خذ مجرة إم 87 البعيدة مثالاً، والتي أصدر الثقب الأسود العملاق الذي يقبع في مركزها دفقة وصلت سرعتها الظاهرية إلى 4-6 أضعاف سرعة الضوء. بحلول تسعينيات القرن الماضي، أصبح تلسكوب هابل قادراً على رصد هذه الدفقة الطاقية بشكل مباشر، ما ساعد العلماء على اكتشاف أن بعض أجزاء هذه الدفقة كانت تتحرك بسرعات مختلفة. يقول أندرسون: "تمكنّا من رؤية أجزاء هذه الدفقة وهي تتحرك. كما تمكنّا من قياس مواقع هذه الأجزاء في الفضاء".
ليس غريباً أن يهتم علماء الفلك بهذه الدفقات هائلة السرعة. وخصوصاً في زمننا هذا. في حالة النجمين النيوترونيين المتصادمين والموصوفين في الدراسة التي نُشرت في مجلة نيتشر، تسبب حدث التصادم هذا بإصدار دفقة من إشعاع غاما. وهو نوع من الدفقات عالية الطاقة التي يجهل العلماء الكثير عنها. تسبب هذا الحدث أيضاً بتوليد الأمواج الثقالية، وهي تموجّات في نسيج الزمكان أصبح الباحثون قادرين على تحسسها ورصدها. لكن حتى يكشف الفيزيائيون عن قوانين فيزيائية جديدة وغريبة تصف حركة المادة في الفضاء. ستبقى سرعة الضوء الحد الذي لا يمكن تجاوزه.