في مجموعتنا الشمسية، هناك عوالم جليدية وأخرى نارية. ويعتبر قمر المشتري آيو مثالاً نموذجياً على العوالم النارية؛ إذ إنه مليء بالبراكين النشطة وانسكابات الحمم.
وضع العلماء العديد من الفرضيات المتنافسة لتفسير طبيعة هذا الجرم السماوي الناري. وتبيّن دراسة جديدة نُشرت في مجلة علوم الكواكب (The Planetary Science Journal) وتم تقديمها في اجتماع الاتحاد الجيوفيزيائي الأميركي الخريفي لعالم 2022 أنه من الممكن تفسير ما يحدث داخل هذا القمر البركاني باستخدام المحاكيات الحاسوبية، وتشير إلى أنه يحتوي على محيط حارق من الحمم تحت سطحه.
اقرأ أيضاً: هل يمكن أن يفيد تصنيع الحمم البركانية في فهم الكواكب الخارجية؟
محيط من الحمم على القمر آيو
يعتقد العلماء أن محيطات الحمم كانت خاصية شائعة في الكواكب الصخرية خلال المراحل الأولى من تشكّل المجموعة الشمسية، ولكن هذه المحيطات أصبحت نادرة للغاية حالياً بعد أن بردت الأجرام السماوية بمرور الوقت. من المحتمل أن يكون محيط الحمم في القمر آيو هو الوحيد في المجموعة الشمسية حالياً. ويمنح وجوده العلماء فرصة لدراسة هذه الظاهرة الطبيعية عن كثب.
يقول عالم الكواكب في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا والمؤلف الرئيسي للدراسة الجديدة، يوشينوري ميازاكي (Yoshinori Miyazak): "يغيّر وجود محيط من الحمم من عدمه طريقة عمل القمر آيو تماماً. كما أنه يؤثر في تفسيراتنا المختلفة للأرصاد التي نجريها لهذا القمر".
تنتج البراكين على الأرض عن تحرّك الصفائح التكتونية. بينما تنشأ البراكين على القمر آيو عن آلية مختلفة تماماً تحمل اسم الاحترار المدّي. ضمن هذه الآلية، يتسبب جسم كبير (كوكب المشتري في هذه الحالة) بمط وتقليص جسم آخر بفعل الجاذبية، ما يتسبب في تسخينه نتيجة للاحتكاك. يشبه الأمر عجن الصلصال باليد ليصبح مرناً ودافئاً. نتيجة لهذه الظاهرة الجيولوجية، يتمتع القمر آيو بدرجة حرارة مرتفعة بما يكفي لتوليد العديد من البراكين.
اقرأ أيضاً: لقد تمكنا من إلقاء نظرة قريبة على أكبر بحيرة حمم بركانية في النظام الشمسي
ظاهرة الاحترار المدي المؤثرة في آيو
يقول عالم الكواكب في مختبر الدفع النفاث التابع لوكالة ناسا، جيمس تاتل كين (James Tuttle Keane)، والذي لم يشارك في الدراسة الجديدة: "تؤثر ظاهرة الاحترار المدي في آيو بشكل كبير، ما يجعله أحد أكثر العوالم التي تتمتع بنشاط بركاني في المجموعة الشمسية؛ إذ إنه يحتوي على 100 بركان نشط في أي لحظة نرصده فيها"، ويضيف: "يعتبر هذا القمر بمثابة مختبر طبيعي لدراسة ظاهرة الاحترار المدي نظراً لتأثيرها الشديد فيه".
هناك جدل مستمر في المجتمع العلمي حول طبيعة المواد الموجودة تحت سطح القمر آيو. افترض العلماء حتى قبل أن يرصدوا سطح هذا القمر أنه قد يحتوي على محيط من الحمم تحت قشرته الصخرية نظراً لأن ظاهرة الاحترار المدي شديدة للغاية فيه. ولكن بعد أن كشفت مركبتا فوياجر وغاليليو عن طبيعة سطح هذا القمر الوعرة، بدأ علماء الفلك بالشك فيما إذا كان وجود هذا المحيط من الحمم يسمح بتشكّل الجبال العالية فيه.
لجأ عندها العلماء لافتراض أن باطن القمر آيو يتألف من الصخور ويحتوي على كمية قليلة من الحمم فقط. تنص فرضية جديدة على أن باطن هذا القمر يتألف من مادة تشبه الحمم والصخور بنفس الوقت، وهي كتل منصهرة تحمل اسم الإسفنج الصهاريّ. يقول تاتل كين: "يمكن تشبيه الإسفنج الصهاري بإسفنج غسل الأطباق أو الإسفنج المرجاني. والذي تكون فيه المواد الصلبة والسائلة مرتبطة بشكل كامل"، ويضيف: "يعني ذلك أن السوائل، مثل الحمم التي تقابل الماء المشبع بالصابون في هذا التشبيه، يمكن أن تتدفق عبر الإسفنج على الرغم من أنه يتمتّع ببنية صلبة نوعاً ما".
اقرأ أيضاً: اكتشاف كوكب خارجي عملاق ساخن جداً قد يجيب عن الأسئلة المتعلقة بموت النجوم
استخدم الباحثون في الدراسة الجديدة نماذج حاسوبية وبيّنوا أن باطن القمر آيو لا يمكن أن يتألف من الإسفنج الصهاري. بالإضافة إلى ذلك، وجد الباحثون أن فرضية المحيط الحممي أكثر ترجيحاً نظراً للأرصاد المتوفرة لهذا القمر.
تفسير تواجد الحمم على آيو
بناءً على الافتراضات المنطقية المتعلقة بالظروف السائدة في القمر آيو، تنبأت المحاكيات الحاسوبية التي أجراها فريق الدراسة بأن الإسفنج الصهاري سينفصل بسرعة مشكلاً طبقتين مختلفتين من الحمم والصخور، ما سيتسبب بتشكّل محيط من الحمم. يقول عالم الجيولوجيا في جامعة كاليفورنيا، فرانسيس نيمو (Francis Nimmo)، والذي لم يشارك في الدراسة الجديدة: "تميل المواد المنصهرة للانفصال عن الصخور بسرعة، تماماً كما ينفصل الجليد عن الماء في مشروب مثلّج إذا ترك لفترة من الزمن".
للأسف، لا يمكن إثبات وجود محيط من الحمم تحت سطح القمر آيو باستخدام هذه النماذج الحاسوبية. ولفعل ذلك، يجب على البشر إرسال مركبة فضائية إلى سطح هذا القمر.
يتطلّع ميازاكي إلى العمليات المستقبلية التي ستجريها مركبة جونو الفضائية في ديسمبر/كانون الأول 2023 وفبراير/شباط 2024، والتي ستقترب فيها من قمر آيو، ما سيمكّن علماء الفلك من قياس إحدى خاصيات هذا القمر والتي تحمل اسم رقم لوف (نسبة للرياضي أوغستس إدوارد هيو لوف، Augustus Edward Hough Love، والذي استخدم هذه الأرقام لأول مرة). يستخدم هذا الرقم للتعبير عن مدى صلابة أو مرونة باطن الأجرام الكوكبية. يقول ميازاكي: "إذا كانت قيمة هذا الرقم مرتفعة، فسيؤكد ذلك وجود محيط تحت سطحي من الحمم في قمر آيو".
اقرأ أيضاً: مركبة ناسا الفضائية “جونو” على وشك استكشاف أسرار البقعة الحمراء العظيمة للمشتري
يقول تاتل كين إنه حتى إذا تم إثبات وجود هذا المحيط، "لا يزال هناك الكثير من الحقائق التي نجهلها عن بنية باطن القمر آيو"، ويضيف: "نحتاج إلى إطلاق المزيد من المهمات في المستقبل لاستكشاف نظام كوكب المشتري والقمر آيو. هناك العديد من الأسئلة التي لا يمكننا إيجاد أجوبتها إلا بإجراء مهمات مخصصة تهدف لاستكشاف هذا القمر البركاني بالتفصيل".