لا يمكن لأي شخص أن يصبح رائد فضاء؛ فقد أصبح روب كولين مؤخراً أول رائد فضاء متدرِّب يخرج من برنامج تدريب رواد الفضاء في ناسا منذ 50 عاماً، ورغم أن من المثير أن نطلع على التحديات والصعوبات التي واجهها -ولا بد- في ناسا، إلا أن رواد الفضاء السابقين يؤكدون على أن المسألة تتجاوز مجرد متدرب واحد عجز عن تحقيق الشروط المطلوبة؛ يقول كريس هادفيلد (وهو طيار في سلاح الجو الكندي ورائد فضاء شارك في ثلاثة بعثات منفصلة إلى الفضاء): "لا أريد أن أخمِّن ما حدث مع أحد رائد فضاء بعينه، ولكن الأمر لا يشبه أن يترك تلميذ ما صفاً معيناً لمجرد أنه لم يتمكن من تحقيق المستوى المطلوب".
ويتابع هادفيلد موضحاً هدف الفترة التدريبية، حيث إنها مخصصة لتقييم كل شخص، وما إذا كان راغباً بالفعل في أداء هذا العمل، وتحديد مدى صلاحيته له بالنسبة لناسا. ويقول إن العمل بصفة رائد فضاء ليس مجرد وظيفة عادية، بل حياة كاملة من الخدمة في حقل ذي متطلبات كثيرة، إنه هوية كاملة؛ فهذا العمل مستمر ومتواصل دون توقف، وخالٍ إلى درجة كبيرة من التألُّق، وزاخر بساعات طويلة من الفروض المنزلية في كل ليلة على مدى عقود كاملة من الزمن؛ فمن الطبيعي -ببساطة- ألا يكون مناسباً للجميع، ولهذا فإن الفترة التدريبية مهمة. كما يقول: "أعتقد أنها طريقة سليمة للقيام بالأمور؛ لأنها تعطي المشاركين طريقة لائقة لتغيير رأيهم، وأعتقد أن هذا الأسلوب نجح كما كان متوقعاً له تماماً".
تقول كايدي كولمان (أخصائية في الكيمياء، ومن ضباط سلاح الجو الأميركي، ورائدة فضاء لناسا في مكوك الفضاء كولومبيا ومحطة الفضاء الدولية): "اختير روب من بين 18,500 شخص لأنه كان رائعاً، وأعتقد أنه اتخذ قراراً سليماً لأننا اخترناه لهذا السبب بالذات"؛ فحياة رائد الفضاء ليست شيئاً يطمح إليه الجميع. وتتابع كولمان قائلة: "لقد كنت عاجزة عن تخيل أي سبب يدفع شخصاً ما لترك الوكالة أو التخلي عن فرصةٍ للتحليق في الفضاء، ولكن هناك الكثير من العوامل المختلفة التي تؤثر على هذا القرار، ومن حق كل شخص أن يعيش حياته بالطريقة التي يريدها، دون أن يطلق الآخرون الأحكام عليه".
وقد نشرت صحيفة هيوستن كرونيكل خبر انسحاب كولين مؤخراً، وأكدت ناسا الخبر، وقالت إنه ترك البرنامج بشكل رسمي يوم الاثنين 31 أغسطس؛ حيث قالت الناطقة باسم ناسا براندي دين لوكالة أسوشييتد بريس: إن الإدارة لا يمكنها أن تتحدث عن أسباب مغادرته بدون انتهاك قوانين الخصوصية.
أما بالنسبة لمن يرغبون في هذه الحياة -أو يعتقدون هذا على الأقل- فيوجد الكثير من التحديات بلا شك، فهو طريق طويل ومليء بالكثير من التدريبات والدراسة المستمرة والمرهقة والتي لا نهاية لها. وإليك صورة تقريبية عن الوضع:
المتطلبات الأساسية
تحسَّنت الأمور منذ بدايات بعثات ميركوري؛ فعندما كان يتم اختيار المرشحين حصراً من العسكريين، كانوا يخضعون لاختبارات ذهنية شاقة للغاية، وعلى الرغم من أن رواد الفضاء يأتون من بيئات متنوعة، إلا أن هناك بعض المتطلبات الأساسية التي يجب أن يحققوها، وهي:
- إجازة جامعية في الهندسة، أو العلوم البيولوجية، أو العلوم الفيزيائية، أو علوم الحاسوب، أو الرياضيات، وذلك من مؤسسة تعليمية معتمدة.
- ثلاث سنوات على الأقل من الخبرة في مجال الدراسة، أو 1,000 ساعة من الطيران على الأقل بصفة طيار قائد في طائرة نفاثة.
- القدرة على اجتياز الاختبارات البدنية الطويلة، ومن الشروط البدنية أن تكون درجة الإبصار 20/20، سواء بشكل طبيعي أو عن طريق الجراحة أو العدسات، وأن يكون ضغط الدم في حالة الجلوس أقل من 140/90، وأن يكون الطول ما بين 155.5 و190.5 سنتمتر؛ وذلك مراعاة لقياسات البدلات الفضائية.
وأكثر رواد الفضاء يتمتعون بتعليم أكاديمي، كما حاز الكثيرون منهم على درجات علمية متقدمة -ماجستير أو دكتوراه- في مجالاتهم، بل إن البعض منهم كانوا أطباء ممارسين فوق كل هذا، ويأتي الكثيرون أيضاً من مؤسسات عسكرية، بعد أن يكونوا قد أصبحوا طيارين.
ولكن الوصول إلى البرنامج قد يتطلب فترة لا بأس بها من الوقت؛ تقول كولمان: " كنت عالمة مختصة في المواد عندما قدمت الطلب، واختاروا بضعة علماء مواد آخرين في نفس المجموعة، ثم مرت عدة سنوات قبل اختيار عالم مواد مرة أخرى. ماذا لو كنتُ تأخرت سنتين في تقديم الطلب؟ ربما لم يكن ليتم اختياري غالباً، على الرغم من أنني الشخص نفسه وبالمؤهلات نفسها".
برنامج الترشيح
إن اختيار رواد الفضاء المتدربين -الذين يطلقون عليهم تحبباً اسم "أسكان AsCan"- عملية تنافسية للغاية؛ حيث يتذبذب عدد الطلبات بشكل كبير في كل دورة (إذ لا يفتح البرنامج سنوياً)، ولكن عادةً ما يتم تقديم آلاف الطلبات، ويُختار منها ما بين دستة أو اثنتين من المرشحين في كل دفعة.
وبعد أن يتم اختيارك تكون أمامك سنتان تقريباً من الصفوف والفروض المنزلية المصممة خصيصى لتحضيرك للذهاب إلى الفضاء؛ حيث ستخوض تدريبات للبقاء على قيد الحياة، وتتعلم كيفية تشغيل البدلة الفضائية، وستركب ما يطلق عليها اسم "مذنب القيء"؛ وهي طائرة تحلق بك في مسار على شكل قطع مكافئ حتى تتيح لك بضع دقائق من الجاذبية شديدة الانخفاض، كما ستتعلم اللغة الروسية أيضاً؛ وهي مهارة هامة نظراً لكثرة رواد الفضاء الروس الذين قد تشاركهم الوقت على محطة الفضاء الدولية.
يقول هادفيلد: "يجب من الناحية البدنية أن تكون في حالة معقولة، ولكن الإعلام يبالغ كثيراً في هذه الناحية لسببٍ ما. أما السؤال الحقيقي فهو مدى قدرتك على التحمل من الناحية العقلية، وكيفية أدائك ضمن سيناريوهات بالغة الصعوبة وكثيرة المتطلبات؛ هذا هو العمل الحقيقي"، وتقول كولمان: "من ناحية التدريبات، أعتقد أن تدريبات البدلة الفضائية هي الأصعب من الناحية البدنية، ولكن يوجد أيضاً الكثير مما ستكتسبه عند محاولة معرفة نقاط ضعفك وقوتك؛ لأنك ستخوض جميع التدريبات على أي حال". كما تنبِّه إلى أن البدلات الفضائية صممت عموماً منذ زمن طويل، مما يعني أنها لم تكن حقاً مصممة لذوي الأجسام الصغيرة، وهي صفة أغلب الأجسام النسائية، مما يجعل من أساسيات تشغيل البدلة الفضائية أكثر صعوبة بالنسبة لشخص مثلها؛ أي أن التدرب على البدلة يعني الكثير من الاستعداد العقلي المسبق بحيث تستطيع التركيز على الجانب البدني.
وبالإضافة إلى كل ما سبق هناك الأمور العائلية؛ حيث إن برنامج التدريب يعني الابتعاد عن الأحباء لفترة طويلة؛ فقد كانت كولمان تتنقل يومياً بين منزلها في ماساتشوستس وبين مركز جونسون الفضائي التابع لناسا في تكساس لمدة 24 سنة للمحافظة على عملها وعائلتها، وتقول: "هناك الكثير من الصراعات، ولكنني أحب هذا العمل كثيراً". إضافة إلى أن هذه الفترة هي التي ستقرر فيها ما إذا كانت ترغب فعلاً في هذه الحياة، كما فعل روب كولين وجميع المتدربين الآخرين.
ويشرح هادفيلد ذلك قائلاً: "نؤكد بشدة -حتى خلال أسبوع الاختيار- على ضرورة التحدث مع الجميع؛ حيث يتم خوض مقابلات اللجان والفحوصات الطبية في مركز جونسون الفضائي، ويجب حينها أن تتحدث مع رواد الفضاء الآخرين، وتحرص على أنك تفهم طبيعة العمل بالفعل، بحيث لا تخوض هذه التجربة عن سذاجة حالمة".
نحو الفضاء فعلياً
بعد سنتين تقريباً من التدريب بصفة أسكان، تصبح رائد فضاء من الناحية التقنية، ولكن دون أي ضمانات أنك ستذهب إلى الفضاء حقاً، وعادة ما ينتظر رواد الفضاء لسنوات حتى يتم تعيينهم في طاقم، وخلال هذا الوقت يتابعون تعلم مهارات جديدة، والتدرب على التعامل مع سيناريوهات صعبة؛ يشرح هادفيلد قائلاً: "على الرغم من نجاحك في اجتياز العملية بالكامل، إلا أنك لن تضمن أنك ستذهب إلى الفضاء حتى تنطلق المحركات التي ستدفع بك إلى هناك".
وبعض رواد الفضاء ينتظرون لعقد من الزمن أو أكثر حتى يتم تعيينهم، ويجتاز آخرون العملية بسرعة، وكل هذا جزء من الاستعداد المستمر الذي تتضمَّنه حياة رائد الفضاء؛ يقول هادفيلد: "إن الأمر خال من التألق والشهرة، على عكس ما يظهر في الأفلام والقصص المصورة، ولكنه أيضاً عمل رائع، وشديد الجاذبية، ومتعدد التحديات، وجديد بالنسبة للبشر، ويجلب لك الكثير من الدهشة والبهجة".
تقول كولمان: "أعتقد أن الكثير منا يشعرون بمسؤولية كبيرة حتى يكونوا على قدر الامتياز الذي حصلنا عليه، وأرى أن هذا يتضمن من الفخر أكثر مما يتضمنه من الضغط"؛ حيث ستجد أنك أصبحت جزءاً من شيء أكبر، ومهمة أعظم بكثير من أي شخص واحد، وتشرح كولمان أن الجميع يتخلون عن أشياء مختلفة حتى يُتاح لهم الانضمام إلى هذه المهمة، ولكن هذا لا يعني أنها ترغب في أن ينظر الناس إلى رواد الفضاء على أنهم متفوقون على الآخرين بفارق كبير؛ حيث تقول: "من السهل أن نتحدث عن روعة رواد الفضاء، ولكن آخر ما أرغب فيه حين أتحدث مع الكثير من النساء واليافعين هو أن أجعلهم يعتقدون أنهم عاجزون عن فعل هذا أيضاً".
ولكن هذا لا يعني أن العمل خال من المرح والخيال؛ بل كما تقول كولمان: "بصفتي أخصائية في الكيمياء، فإنني أشعر بالذهول إزاء التحليق مقابل أجر مادي، وتعلُّم تقنيات البقاء على قيد الحياة، والتدرب على أنظمة محطة الفضاء الدولية وكأنك ستعيش هناك؛ لأن هذا ما سيحدث فعلاً. وما زلت أتذكر الأسابيع الأولى حين كنا ننظر إلى بعضنا البعض في أيام الجُمَع ونقول: تخيلوا أننا نفعل هذا مقابل أجر مادي! كم أفتقد تلك الأيام".
إن كنت تود أن تعرف كيف تصبح رائد فضاء، أعددنا لك هذا الفيديو: