هل يستطيع البشر فعلاً الذهاب إلى المريخ أم أن قوة الإشعاع في الفضاء ستمنعهم؟

4 دقائق
قد تَحِد الإشعاعات الكونية والشمسية من المدة التي يمكن أن يُمضيها البشر في الفضاء، وتحاول بعثةٌ إلى المريخ لمدة ثلاثة أعوام أن تزيد من هذه المدة.

ليست زيارة المريخ بالأمر السهل والخالي من الأخطار؛ حيث يجب على رواد الفضاء أن يبقوا على قيد الحياة لمدة ستة أشهر في أعماق الفضاء لمجرد الوصول إلى هناك، ومن ثم إمضاء حوالي سنة ونصف على السطح قبل أن يصبح من الممكن الانطلاق في رحلة العودة إلى الأرض، التي ستدوم أيضاً لستة أشهر إضافية، وهذا يعني الحرمان من موارد الأرض الجميلة لمدة سنتين ونصف، ولهذا يجب على رواد أول طاقم يذهب إلى هناك أن يحزموا في حقائبهم الكثير من الأكسجين والماء، بالإضافة إلى أجهزة امتصاص ثنائي أكسيد الكربون وتدوير البول من أفضل نوعية، وعدة أطنان من البطاطا.

وهناك مخاطر أخرى أقل أهمية قد تؤذي الصحة، ولكن ليس من الضروري أن تكون قاتلة بشكل فوري، وهي: هل سيكون أفراد الطاقم قادرين على مواجهة التحدي من الناحية النفسية؟ وكيف سيؤثر انخفاض الجاذبية لعدة سنوات على كثافة العظام؟ وأيضاً هناك الإشعاع المؤلف من الجسيمات عالية الطاقة القادمة من الشمس والفضاء ما بين النجوم، حيث يتكفل الحقل المغناطيسي الأرضي بحمايتنا منه إلى درجة كبيرة، ولكن في الفضاء لا يوجد ما يمنع هذه الجسيمات السريعة من إصابة أجسامنا وتحطيم أشرطة الحمض النووي فيها، مما يزيد من احتمال الإصابة بالسرطان.

وقد أعلنت وكالة الفضاء الأوروبية مؤخراً عن مقدار الإشعاع الذي التقطه مسبار إكسومارس المداري لدراسة آثار الغاز خلال رحلته التي دامت لستة أشهر من الأرض إلى المريخ في 2016، حيث تعرضت المركبة الفضائية غير المأهولة خلال ذلك الوقت إلى حوالي 30% من نسبة الإشعاع القصوى المسموح بها لرواد الفضاء الأوروبيين، وهذا يعني أن أي شخص ذاهب في رحلة ذهاب وعودة إلى المريخ سيتعرض على الأقل إلى 60% مما تعتبره إيسا مقبولاً خلال فترة حياة الشخص، بدون أن نأخذ بعين الاعتبار الفترة التي سيمضيها على السطح، حيث يكون خطر الإشعاع حوالي نصف ما هو موجود في الفضاء. وقد تبدو هذه النسبة مرعبة حقاً، ولكن ماذا تعني فعلياً من الناحية الصحية؟ تستطيع بعض الأبحاث السابقة من ناسا أن تقدم لنا فكرة أكثر وضوحاً عن الأمر.

هناك الكثير من الوحدات المستخدمة لقياس الإشعاع، ومن الوحدات الطريفة وحدة "BED"، أي الجرعة المكافئة للموزة، حيث تساوي هذه الوحدة مقدار الإشعاع الذي تحصل عليه إثر تناول موزة واحدة، غير أن وكالات الفضاء تعتمد وحدة أخرى هي الميلي سيفرت (mSv)؛ وذلك لأنها تهتم بمعرفة الأثر الصحي للإشعاعات، حيث يكافئ الإشعاع بمقدار 1 سيفرت -أو 1000 ميلي سيفرت- زيادةً بنسبة 5% تقريباً في احتمال الإصابة بالسرطان ضمن فترة الحياة الكاملة.

وفي نفس الوقت كانت ناسا تعمل على تقديرات مماثلة، وتوصلت إلى أن خططها لبعثات مأهولة تتراوح بين سنتين وثلاث سنوات تتضمن حوالي 1000 ميلي سيفرت من الإشعاع لكل رائد فضاء، وقد نشرت هذا الرقم في وثائق أكاديمية تعود على الأقل إلى 2008، وهذا الرقم كبير بما فيه الكفاية حتى يمثل عاملاً مثيراً للقلق (على الرغم من وجود بعض التقنيات الجديدة التي تهدف إلى تخفيضه، مثل التدريع بالأنابيب النانوية والقباب الجليدية)، ولكن ليس إلى درجة إيقاف العمل بشكل كامل، بما أنه يمثل -وفقاً لطريقة تفكير بيروقراطية- الحدَّ الأقصى الذي تسمح به ناسا.

ويعتمد الحد الأعلى من الإشعاع الذي تسمح ناسا بتعرُّض رواد الفضاء إليه على مدى حياتهم المهنية على العمر والجنس، بدءاً من 1000 ميلي سيفرت لامرأة بعمر 25 سنة، وصولاً إلى 4000 ميلي سيفرت لرجل بعمر 55 سنة، وقد وُضعت هذه الأرقام بشكل يأخذ بعين الاعتبار احتمال وفاة رائد الفضاء بسبب السرطان على امتداد حياته (وليس فقط الإصابة بالسرطان)، بحيث لا يزداد هذا الاحتمال بأكثر من 3%. وهذه الزيادة بالطبع تُضاف إلى نسبة الخطر التي يتعرض لها أي إنسان عادي: 40% للإصابة بالسرطان، وحوالي 20% للوفاة بسببه، وفقاً للجمعية الأميركية للسرطان. لكن إيسا وضعت معايير أشد صرامة، حيث اعتمدت 1000 ميلي سيفرت كحدٍّ أقصى للتعرض للإشعاع خلال الحياة المهنية للجميع، بغض النظر عن العمر والجنس.

وفي 2014 حدَّثت ناسا تقديراتها بالاعتماد على بعض القياسات المباشرة التي أجرتها العربة الجوالة كيوريوسيتي على سطح المريخ، ووفقاً لتقديراتها سيتعرض رواد الفضاء إلى 300 ميلي سيفرت خلال الرحلة إلى المريخ التي ستدوم ستة أشهر، و400 ميلي سيفرت أثناء العيش على سطحه لمدة 18 شهراً (حيث يحجب الكوكب على الأقل نصف الإشعاع)، و300 ميلي سيفرت أخرى في رحلة العودة، ليصل الإجمالي إلى 1000 ميلي سيفرت، وهو المقدار المطلوب تماماً.

ولن ينصح أي طبيب بالتعرض لأكثر من 300 ميلي سيفرت سنوياً على مدى ثلاث سنوات، ولكن الرقم السابق بعيد للغاية عن الحد القاتل، حيث إننا نتعرض على أي حال إلى الكثير من الإشعاعات من العناصر الطبيعية المشعَّة المحيطة بنا بشكل يومي، مثل البوتاسيوم في الموز. وفي الولايات المتحدة، نتعرض إلى حوالي 3 ميلي سيفرت سنوياً، ويرتفع هذا الرقم إلى 5 ميلي سيفرت لمضيفات الطيران، كما يُسمح للعاملين في محطات الطاقة النووية سنوياً بمقدار 20 ميلي سيفرت، أما مواطنو رامسار في إيران -الذين يبنون منازلهم من حجر كلسي محلي مُشِع- فيعيشون طوال حياتهم مع جرعات سنوية كبيرة تساوي 250 ميلي سيفرت، ومن حسن الحظ أن نسب السرطان هناك لا تتجاوز مثيلاتها في المناطق القريبة (وبشكل غامض) على الرغم من أن الإشعاع المحيط يقارب النسب الموجودة على سطح المريخ.

ولم تعلن إيسا حتى الآن عن تفاصيل قياسات إكسومارس، ولكن نسبة 60% من معاييرها الصارمة تشير إلى حوالي 600 ميلي سيفرت لكامل الرحلة، وبإضافة 400 ميلي سيفرت للوقت على سطح المريخ، نحصل على مقدار لكامل البعثة يساوي حوالي 1000 ميلي سيفرت على مدى ثلاث سنوات، وهو الرقم السحري الذي يمثل الحد الأقصى المقبول لكلتا الوكالتين. ولكن التعرض لجرعة قصوى كاملة في بعثة واحدة طويلة قد يؤدي إلى إيقاف إلزامي عن السفر إلى الفضاء، ولكن بعد إمضاء سنة ونصف في استكشاف المريخ، قد لا يبدو إمضاء بقية العمر على الأرض فكرة سيئة لبعض رواد الفضاء.

وستتابع ناسا وإيسا تطوير التقنيات اللازمة لحماية رواد الفضاء من الإشعاعات مع استمرار محاولة التوسع في الفضاء، ولكن حتى في هذه المراحل المبكرة، يبدو أن الإشعاع الخلفي الذي سيتعرض له مستكشفو المريخ في المستقبل -على مدى رحلة جيدة التوقيت وخفيفة التدريع- لا يختلف كثيراً عن المقدار المسموح به حالياً لرواد الفضاء على متن محطة الفضاء الدولية في المدار الأرضي الأدنى، ناهيك عن وجود الكثير من المتقدمين الذين يطمحون في الحصول على هذه الوظيفة.

المحتوى محمي