جرب أن تأخذ شهيقاً، ثم أخرِج الهواء في صورة زفير من صدرك، وسترى أن كل شيء على ما يرام؛ لأن هناك حوالي 25 سبتيليون (10 مرفوعة للقوة 24) جزيء من الهواء في المتر المكعب المحيط بوجهك، وهو ما يكفي لملء رئتيك والمحافظة على عمل جسمك، أليس هذا رائعاً؟ لو كنت الآن في الفضاء بين المجرات لوجدت نفسك في ورطة حقيقية؛ حيث إن تركيز الغازات هناك يساوي تقريباً ذرة واحدة في كل خمسة أمتار مكعبة.
غير أن الفضاء هائل الاتساع، وحتى هذه الكمية التافهة من الغاز تكفي لاكتشافها من قِبَل الفلكيين الذين يحدقون في أعماق الكون؛ وذلك لأن الضوء القادم من النجوم والمجرات يمر عبر هذه الغازات، مما يؤدي إلى امتصاص أطوال موجية معينة حتى إن كانت كمية هذه الغازات قليلة جداً، وهي إشارة يمكن للفلكيين هنا على الأرض التقاطها.
وتتوزع هذه الغازات حالياً بين النجوم بشكل متجانس على كامل امتداد كوننا الذي يبلغ من العمر 13.7 مليار سنة، وعادة ما يتعرض الضوء العابر إلى الاحتجاب أو الإصدار بطرق متوقعة وموحدة، ولكن لم يكن الوضع هكذا على الدوام؛ بل إن الكون عندما كان يافعاً لا يتجاوز عمره المليار سنة، كان الغاز أكثر عتامة مما هو عليه اليوم، وكانت درجة العتامة متفاوتة بين المناطق المختلفة من الفضاء بدلاً من توزُّعها بشكل منتظم، وإن فهم هذه التباينات قد يعطي الباحثين صورةً جيدة عما كان يحدث في بدايات الكون، وهو ما يدعوهم للتحديق في الخلاء.
يعمل جورج بيكر فلكياً في جامعة كاليفورنيا ريفرسايد، وهو المؤلف الرئيسي لبحثٍ في مجلة Astrophysical Journal حول اكتشاف عدد من المجرات في خلاء معتم يمتد على مسافة 500 مليون سنة ضوئية، وبشكل يقل عما هو متوقع على أساس شروط فيزيائية معينة؛ يقول بيكر: "يمكننا -وَفقاً لمعايير معينة- أن نعتبر هذا المكان هو أغرب مكان رأيناه في الكون حتى الآن".
وقد استخدم بيكر وزملاؤه تلسكوباً عالي الاستطاعة في ماونا كيا في هاواي، ويستطيع هذا التلسكوب رصد مساحة كبيرة من السماء، وقد فتَّش الباحثون المنطقة آنفة الذكر بحثاً عن المجرات الأصغر عمراً، وعادة ما تكون المنطقة المظلمة والمعتمة إلى هذه الدرجة مكتظةً (نسبياً) بالغازات والمجرات، لكن لم تكن هناك مجرات، وعلى الرغم من أن الغاز كان أكثر كثافة بقليل في ذلك الوقت (أي تقريباً 60 ذرة في المتر المكعب)، لكنه بالتأكيد لم يكن كافياً لحجب المنظر عن الفلكيين. كما كان هذا الغاز معتماً أيضاً بالنسبة لبضعة أطوال موجية في المجال فوق البنفسجي، ولكنه يسمح بمرور أطوال موجية أخرى، مثل الضوء المرئي من النجوم. وباختصار: لو كانت هناك مجرات تطوف في تلك المنطقة -كما هو متوقع- لرآها الباحثون.
ولكنها لم تكن هناك، بل كان هناك عدد قليل من المجرات لا يصل إلى الحد المتوافق مع العتامة العالية، ويعتقد بيكر أن السبب هو أن هذه المنطقة كانت تمر بمرحلة مميزة في تاريخ الكون؛ فبعد الانفجار الكبير وانطلاق المواد الحارة في جميع الاتجاهات، انخفضت حرارة كل شيء، بما في ذلك الهيدروجين، وهو أحد العناصر الجديدة، وبقي الهيدروجين الغازي حيادياً وغير مشحون حتى بدأت تتشكل المجرات، وعند ذلك بدأت كميات من الهيدروجين في اكتساب الشحنات ثانية، وأصبحت معادة التأين مع تفاعل الضوء القادم من المجرات التي تتشاكل مع الغاز، صحيحٌ أن الهيدروجين المتأين شفاف في أغلب الأحيان، لكن الهيدروجين الحيادي يميل إلى العتامة بالنسبة لبعض الأطوال الموجية فوق البنفسجية؛ ولهذا يمكن تفسير العتامة الفائقة لهذا الخلاء على أنه ما زال في المرحلة الانتقالية ما بين العصور المظلمة للكون ومرحلة إعادة التأين.
تقول فيراه مونشي (وهي فلكية في جامعة أوكلاهوما، ولم تشارك في هذه الدراسة): "إن فهم إعادة التأين يتيح لنا استيعاب الهيكلية الكبيرة لتوزع المجرات حالياً، والمكان الذي أتت منه هذه المجرات، وأي أنواع منها تشكَّلت أولاً"، كما تقول إنها تعد هذه الدراسة الجديدة مثيرة للاهتمام؛ لأنها تعد -بشكل أساسي- اختباراً كان الفيزيائيون الفلكيون يفكرون فيه وينشرون الأبحاث عنه منذ فترة.
وتعتمد موشي في عملها على محاكاة حاسوبية يمكنها أن تعيد تشكيل حيوات المجرات منذ بداياتها حتى اليوم، ولكن يجب -حتى يكون هذا العمل دقيقاً- أن تحصل على نتائج عمليات رصد مثل تلك التي يُجريها بيكر؛ وذلك من أجل أن تعرف كيفية تعديل معاملات المحاكاة حتى تحقق أعلى دقة ممكنة.
وقد بدأ الباحثون في مجال الفيزياء الفلكية النظرية -من أمثال موشي- في التفكير بطريقة استخدام هذه المعلومات الجديدة لاحقاً في عمليات المحاكاة، ويأمل بيكر وزملاؤه -في هذه الأثناء- أن يتم إجراء المزيد من عمليات الرصد لقطاعات أخرى من السماء في الفترة القادمة.