نحن نعرف العناكب كوحوش هادئة ثمانيّة الأرجل تتربص بفريستها وتنصب لها الشراك ذات الشبكات والسموم. لكن 13 في المائة فقط من أكثر من 450 ألف نوع من أنواع العنكبيات يمكن أن تطارد الفريسة بقوة وتهاجمها قافزة عليها، كأنها نمر ذو ثمانية أرجل، أو نسخة مرعبة من العنكبوت العملاق أراجوج في سلسلة "هاري بوتر".
ولكونها مرعبة لهذا الحد، فإن الطريقة التي تقفز بها هذه العناكب تستحق الدراسة. يمكن أن تقفز العناكب لمسافة تصل إلى ستة أضعاف طول جسمها من وضعية الوقوف (بينما لا يستطيع الإنسان القفز لمسافة أبعد من 1.5ضعف طوله)، وتحمل خمسة أضعاف وزنها في الهواء. إن ترجمة هذه العجائب الفيزيولوجية إلى استراتيجيات هندسية من الممكن أن تحدث ثورة في نوع الروبوتات التي نصنعها وننشرها، على الرغم من أننا نأمل ألا تنقضّ على الفرائس البشرية.
أجرى فريق من الباحثين من جامعة مانشستر في المملكة المتحدة دراسة قامت بتدريب عنكبوت قفز ملكية تدعى "كيم" للقفز عبر مسافات مختلفة من مسار ذي حواجز، بينما كان الفيديو فائق السرعة يأخذ لقطات للقفزات. وتوفر النتائج الجديدة، والتي نشرت في مجلة تقارير علمية في أبريل 2018، نظرة أكثر تفصيلاً على آلية القفز التي تجعل هذه الأنواع وغيرها تحقق قفزات طويلة ودقيقة بصورة استثنائية.
يقول راسل جاروود، عالم الحفريات بجامعة مانشستر، والمؤلف المشارك في الدراسة الجديدة: "اكتشافنا الرئيسي لهذا النوع هو أن القفزات قصيرة المدى تميل إلى استخدام مسارات حادة الزاوية تقلل من زمن الانتقال". وكانت هذه الأنواع من القفزات، التي تجتاز حوالي 30 ملليمتراً، أسرع وكانت تعطي أولوية للسرعة والدقة على المتطلبات الأخرى.
في هذه الأثناء، كانت القفزات الأطول (التي تصل إلى 60 ملليمتراً) تستخدم زوايا انطلاق أكثر حدة لتحسين زمن الانتقال والسماح للعنكبوت بالانتقال لمسافة أكبر، ولكنها أيضاً خفضت كمية الطاقة المبذولة. يقول جاروود: "من هنا يبدو أن ديناميات قفزات الحيوانات تعتمد على طبيعة القفزة".
تمتلك العناكب القافزة حاسة بصر حادة مقارنةً بالعنكبيات ومفصليات الأرجل الأخرى، مع وجود أربع أعين كبيرة في الأمام وأربع أخرى أصغر في الجزء العلوي من الرأس. يرجح أن هذه الرؤية تسمح للعنكبوت بزيادة المسافة وتحديد التوقيت المناسب والزاوية اللازمة للقفزة الكبيرة (أو الصغيرة). لكن هذا لا يعني أن هذه العناكب يمكن أن ترى لمسافات بعيدة جداً. كان الحد الأعلى لقفزات العنكبوت "كيم" البالغة 60 ملليمتراً قد فرضته هي على نفسها، حيث رفضت تجربة مسافات أطول من ذلك. وعلى الأرجح فإن ذلك يعود ليس لأنها لم تستطع أن تأخذ هذه المسافة (غالباً ما كانت كيم تتخطى القفزات الطويلة على أي حال)، ولكن لأن مدى رؤيتها هو الذي خذلها.
وقام الباحثون بشراء العديد من العناكب الملكية القافزة من مخزن الحيوانات الأليفة المحلي على أمل تدريبها، ولم يكن هناك سوى العنكبوت المدعوة "كيم" التي يبلغ وزنها 150 جراماً، وطولها 15 ملليمتراً، على استعداد للقبول بهذه المطالب. يقول جاروود: "أعتقد، إذا كنت صادقاً، أننا تغلبنا على ذلك إلى حد كبير بالحظ. لقد اضطررنا إلى العمل بجد لالتقاط القفزات التي نجحنا في التقاطها بالكاميرا".
لاحظ الباحثون أن العنكبوت الملكي القافز يستخدم -على ما يبدو- الانقباض العضلي الحاد من أجل إنجاز القفزة، في مقابل استخدام الطاقة المخزنة في آلية تشبه المنجنيق، كما تفعل أنواع أخرى من مفصليات الأرجل.
يقول جاروود: "كان الشيء الأساسي الذي كنا نرغب في تحديده في هذه الدراسة هو ما إذا كان هذا النوع يستخدم حركة السوائل بالإضافة إلى العضلات لتزويد قفزاتها بالقوة". وتستخدم العناكب ضغط اللمف الدموي (وهو الشكل العنكبوتي للدم) لتمديد أرجلها. وكان يعتقد في البداية أن القوة الهيدروليكية تعمل مقترنةً مع القوة الكاملة لعضلات الساق للسماح للعنكبوت الملكي القافز بتنفيذ قفزات صاعدة، وليس فقط قفزات جانبية أو هابطة.
يقول جاروود: "لسوء الحظ لم نتمكن من جلاء حقيقة الأمر على وجه اليقين". واستناداً إلى ملاحظات القفزة وبيانات فيزيولوجيا الساق التي تم جمعها من خلال المسح المقطعي الحاسوبي ثلاثي الأبعاد، وجد الباحثون أن القفزات يجب أن تكون ممكنة بناءً على القوة التي توفرها كتلة عضلات الساق وحدها. وقد تعطي القوة الهيدروليكية الناتجة عن اللمف الدموي دفعة للعنكبوت عندما يقفز، لكنها ليست سمة أساسية. يقول جاروود:"نأمل أن تلقي الدراسات المستقبلية بعض الضوء على هذا الأمر".
وإذا كان من الممكن تكرار فيزياء القفز في روبوت طائر أو قافز، يمكن أن يساعد هذا في حل مشكلة الكثير من القيود الميكانيكية الحيوية التي تُبقي معظم الروبوتات على الأرض - وبالتحديد، عملية التوازن بين إبقاء الروبوت يضيء وبين إعطائه طاقة كافية للقفز مسافات كبيرة في الهواء - وربما يؤدي إلى عصر جديد من الربوتات. وقد استخدم فريق البحث المسح المقطعي الحاسوبي ثلاثي الأبعاد للعنكبوت "كيم" لتصميم نموذج مصغر لسيقان العنكبوت وهيكل الجسم الكامل مع آلية القفز. ولسوء الحظ، فقد انفجر النموذج خلال اختبار القفز الفعلي. وقد اتضح أننا ما زلنا متأخرين في تطوير الإلكترونيات التي تعمل بسلاسة على هذا المستوى، وسنحتاج إلى المزيد من البيانات التي توضح كيفية تحكم العناكب والمخلوقات الصغيرة الأخرى في مقدار القوة التي تبذلها عندما تقفز وتتحرك.
وإذا تم إغراق العالم بجيش من الروبوتات العنكبوتية القافزة الصغيرة، فستعرف بأن هذا أحد المشاريع البحثية الرئيسية التي تجلب معها الموت والكآبة.