كان آخر ظهورٍ لفيل الماموث الصوفي على الأرض منذ نحو 4000 سنة، لكّن أنيابها- التي تُصنع منها التماثيل والحلي والمجوهرات- أصبحت سلعةً مطلوبةً جداً في الصين بسبب حظر تجارة عاج الفيل.
نحت حرفيو الصين كلا النوعين من العاج منذ آلاف السنين، لكن عاج الماموث الذي كان يُجمع منذ زمنٍ طويل من بقايا جثث الماموث المتجمد في سيبيريا بات رديء النوعية؛ ومنخفض السعر، وبعد أن حظرت تجارة عاج الفيلة، اتجه الصيادون الروس للبحث في كلّ شبرٍ من سيبيريا عن أنياب الماموث الضخمة لتلبية طلبات المشترين الضخمة في هونج كونج والصين عموماً، حيث كان سعر الرطل الواحد منه يصل إلى نحو 450 دولاراً قبل حظر تجارة عاج الفيل.
تقول لوسي فيني، مستشارة الحياة البرية والمحققة في تجارة العاج وقرون وحيد القرن: «أثبت عاج الماموث أنه بديل مثالي للغاية عن عاج الفيلة وأصبح له سوقٌ ضخمٌ رائج في الصين، وهم سعداء جداً ببيع منتجاته بدلاً من عاج الفيل».
لكن تبرز هنا مشكلةٌ في أنّ المنتجات التي تُصنع من عاج الفيل والماموث -الحلي والمجوهرات- على حدّ سواء متشابهةٌ إلى درجةٍ كبيرة؛ ولا يمكن تمييزها بسهولة، وهناك أدلةٌ بالفعل على أن عاج الفيل يباع ويهرّب بطريقةٍ غير شرعية على أنه عاج ماموث، ويخشى بعض الخبراء أن يصبح سوق تجارته مكاناً لغسل الأموال في المستقبل. لذلك يضغط بعض واضعي السياسات وأنصار البيئة، على تنظيم تجارة عاج الماموث؛ بدلاً من فرض الحظر التام عليها ومعاملتها كما لو كانت تهدد حيواناً ما بالإنقراض. ومن شأن اتخاذ مثل هذه الخطوة الجريئة أن تُدرج الحيوانات المنقرضة؛ في إطارٍ قانوني مشابهٍ للإطار القانوني الذي يحمي الحيوانات المهددة بالانقراض؛ مثل الأسود، والدببة، وأسماك القرش البيضاء.
إحدى الدول في الاجتماع الذي عقد في سبتمبر من العام الجاري؛ للدول الموقعة على معاهدة التجارة العالمية لأصناف الحيوان والنبات البري المهدد بالانقراض «CITES» في جنيف بسويسرا، تقدمت باقتراحٍ يُنظّم تجارة أنياب الماموث في الإطار القانوني، لكنه يطالب الدول الأعضاء بإصدار تشريعاتٍ تسمح بعمليات الاستيراد والتصدير، وتسجيل تلك المعاملات في قاعدة بيانات دولية، وعليها اتخاذ التدابير المناسبة لتضمن أن عاج الماموث المُصدر أو المستورد ليس في الحقيقة عاج فيل.
ناقش ممثلون عن الدول الأعضاء الاقتراح ملياً، لكنه رُفض في نهاية المطاف- رغم أن المسؤولين وافقوا على إصدار دراسةٍ حول الموضوع.
يقول سيمون نمتزوف، عالم البيئة والحياة البرية والذي ساهم في إعداد المُقترح: «نعلم أن هناك سوقاً لتجارة عاج الماموث، وأن البعض يبيعه على أنه عاج فيل عن عمد، ولكننا لا نعلم حجم هذه المشكلة بالفعل».
ويضيف نمتزوف: «قد يبدو اقتراحنا غريباً من ناحية إدراج حيوانٍ منقرض ضمن اتفاقية تحمي الأنواع المهددة بالانقراض، بيد أن جلّ هدفنا كان منع غسل الأموال بالمتاجرة بعاج الفيل، والحد من الصيد والاتجار غير المشروع به».
أدى ارتفاع الطلب على العاج في الصين ودولٍ آسيويةٍ أخرى خلال العقد الماضي إلى ارتفاع معدلات الصيد غير المشروع في أفريقيا. فقد انخفض عدد الفيلة في مناطق السافانا بين عامي 2007 و 2014 بنسبة 30%، بالمقابل انخفضت أعداد تلك التي تعيش في الغابات بنسبةٍ وصلت إلى 62% بين عامي 2002 و 2011. وكنوعٍ من الاعتراف بدور الصين بالتسبب في تراجع أعدادها، حظر الرئيس الصيني شي جين بينج؛ جميع مبيعات منتجات العاج المحلية تقريباً.
لكن تداول عاج الماموث شراءً أو بيعاً بقي شرعياً في الصين وفي كل مكانٍ تقريباً باستثناء الهند، بينما تجارته غير مُنظمة، وبالإضافة إلى ذلك، وعلى النقيض من الحظر الشامل الذي طُبق على تجارة عاج الفيل حول العالم عام 1989، لا توجد قوانينٌ لضبط تصدير واستيراد عاج الماموث بين البلدان.
يقول أدريان ليستر، عالم الحفريات في متحف التاريخ الطبيعي في لندن: «توجد بقايا جثث الماموث الصوفي في العديد من المواقع حول العالم، لكن ينبغي أن تكون محفوظةً في التربة المتجمدة لكي تكون أنيابها مناسبةً لإعادة تشكيلها، وإلا فإنها ستتكسر بسرعة عند معاملتها، وتوجد الملايين منها متجمدةً في في سيبيريا، كما توجد في كندا وألاسكا ولكن بدرجةٍ أقل».
كانت كميات عاج الماموث المُتداولة صغيرةً نسبياً حتى وقتٍ قريب، وتقول فيني: «قام تاجرٌ روسي بشرائها من الصيادين الروس في سيبيريا، ثم باع معظمها في هونغ كونغ»، وتضيف فيني: «لقد كان ذلك التاجر متعاوناً معنا لأبعد حد وقدم لنا المعلومات دائماً».
لكن يبدو أن العديد من التجار والصيادين قد انخرطوا في هذه التجارة الآن، حيث تقول فيني: «ببساطة، لقد خرجت تجارة أنياب الماموث عن السيطرة».
ازدادت شعبية عاج الماموث تدريجياً منذ بدايات القرن الحالي، إلا أن الحظر الذي طبقته الصين مؤخراً على تداول مبيعات عاج الفيل أدّى لاعتماد الحرفيين عليه كبديلٍ أساسي، وسرعان ما أدرك الصيادون الروس ذلك وأخذوا يجوبون براري سيبيريا والتوندرا؛ كل صيفٍ بحثاً عنها مستخدمين آلات ضغط المياه العالية في الحفر والتنقيب عنها. يقول ليستر: «إنهم يسيئون لنظام التوندرا البيئي الهش».
لا أحد يعلم بدقة عدد المجموعات أو الأشخاص المنخرطين في ذلك، لكن أعدادهم في تزايدٍ مستمر على ما يبدو، كما أن ارتفاع درجات الحرارة الناجم عن التغير المناخي يسهل عملهم، حيث تتكشف طبقاتٌ أعمق تحت وقع ذوبان الثلوج لفترةٍ أطول. وكنتيجةٍ لذلك، يقول ليستر: «ربما يتجاوز عدد ما عثرنا عليه من بقايا جثث الماموث خلال العشرين عاماً الماضية ما يفوق ما وجدناه خلال 200 سنةً السابقة كلّها».
ووفقاً لبحث فيني، فإن معظم العاج المُستخرج يذهب إلى هونج كونج والصين. وازدادت واردات هونج كونج من 24 طناً عام 2009 إلى أكثر من 59 طناً عام 2014. وفي تحقيقٍ أجرى في أسواق كوانزو عاصمة مقاطعة «كونجدنج» في الصين عام 2018 أن عدد المنتجات المصنوعة من عاج الماموث قد ارتفع بشكلٍ ملحوظ.
يمكن التمييز بسهولةٍ بين أنياب فيل الماموث الكاملة- لونها الخارجي بني وتميل لأن تكون كبيرةً ومقوّسةً أكثر- وأنياب الفيل العادية أصغر، لكن يصبح من الصعب تمييزها حقاً عندما تُشكّل في منحوتاتٍ أصغر حجماً، لذلك أصبحت تجارة العاج وسيلةً جذابةً لعمليات غسيل الأموال.
توجد أدلةٌ بالفعل تشير إلى تسويق عاج الفيل عالمياً على أنه عاج الماموث، لقد وثّقت فيني تلك الظاهرة في عامي 2011 و2014 في الصين، وقد أُدين تاجرٌ في نيويورك عام 2017 يُتاجر في التحف لبيعه منحوتاتٍ من عاج الفيل بينما كانت في الحقيقة مصنوعةً من عاج الماموث.
يعتقد بعض الخبراء أنه يجب حظر تجارة عاج الماموث أيضاً كُلياً. ويقول ليستر: «طالما تُسهم تجارة عاج الماموث في استمرار تجارة عاج الفيلة، فإن الطلب على عاج الفيلة سيبقى مستمراً أيضاً».
لكن حظر مثل تلك المنتجات بموجب اتفاقية «CITES» يتطلب أدلةً علمية واضحة بأن تجارته تهدد بانقراض نوعاً معيناً، وبالنسبة لتجارة عاج الماموث، فلا يوجد حتى الآن دليلٌ علمي أو رابط يثبت تهديدها المحتمل المباشر على الفيلة. بالإضافة إلى ذلك، فإن ممثلي الدول الموقعة على الاتفاقية لا يأخذون في اعتبارهم الأدلة العلمية فقط عند التصويت على حظر منتجاتٍ جديدة، بل يضعون بعين الاعتبار مصالح التجار والحرفيين والبائعين، لسببٍ ما، أيضاً.
بالإضافة إلى ذلك، ينقسم أنصار الحفاظ على البيئة والاقتصاديين وعلماء السلوك حول ما إذا كان التركيز على خفض الطلب على منتجات الحياة البرية المحظورة مثل عاج الفيل أكثر فعاليةً، أم إغراق السوق بمنتجات متشابهة، كوسيلةٍ لتلبية احتياجات المستهلكين وتقويض أسواقها غير المشروعة. يقول نمتزوف: «لا تؤخذ القضايا العلمية البحتة فقط بعين الاعتبار عند اتخاذ قرارٍ مثل منع تجارة عاج الفيلة أو أية قرارات مماثلة».
في الواقع، يعتقد معظم الخبراء، ومن ضمنهم نمتزوف، أنه لا ينبغي حظر عاج الماموث، ولكن ينبغي تنظيم تجارته للتأكد من عدم استخدامه كغطاءٍ تتستر بها تجارة عاج الفيلة.
حاول نمتزوف وزملاؤه تقديم لوائح تنظيمية جديدة بخصوص عاج الماموث في مؤتمر «CITES» الذي انعقد عام 2016، لكن عدداً من المسؤولين أجّل النظر فيها تحت غطاءٍ من البيروقراطية، حيث كانوا -حسب ما قاله نيمتزوف- بحاجةٍ إلى المزيد من التحقيق في الموضوع، وأن عليهم أن يكونوا متأكدين مئةً بالمئة ما إذا كانت تجارة العاج تُمثل مشكلةً بالفعل.
وقد حاول نمتزوف وزملاؤه في المؤتمر الأخير استمالة الآخرين من خلال وضع مقترحٍ رسمي متكامل مُرفقٍ بالدلائل التي تشير إلى قيام البعض بغسيل الأموال تحت ستار تجارة عاج الفيلة. تقول سوزان ليبرمان، نائبة رئيس السياسة الدولية في جمعية الحفاظ على الحياة البرية، إن محاولة إدراج منتجاتِ نوعٍ منقرض في اتفاقية «CITES» هي محاولة غريبةٌ جداً ومن المرجح أن تكون الأولى من نوعها، وتضيف أن أحداً لن يبيع أسنان القط على أنها أسنان نمر لأن تمييزها عن بعضها سهلٌ جداً، لكن عندما نأتي إلى عاج الماموث، ونظراً لأن منتجاته تشبه منتجات عاج الفيلة بدرجةٍ كبيرة، فمن المنطقي جداً تنظيم تجارته في أُطرٍ قانونية.
وتقول: «إن الاقتراح المُقدم كان محاولة جيدةً للقول بأن هناك مشكلةً. نحن لا نعرف حجم المشكلة حقّاً، لذلك ندعو لتنظيمها» وأضافت: «إن دفع المجتمع الدولي للموافقة على ذلك المقترح لن يكون أبداً سهل المنال».
وفي أحد الردود على المقترح المُقدم، وعلى سبيل المثال، كتب هايدي فورمان، ممثل الإتحاد الأوروبي في اتفاقية «CITES»: «يجب أن تركّز الاتفاقية على الحفاظ على الأنواع الحية، وليس على الأنواع المنقرضة منذ فترةٍ طويلة».
وفي معرض نقاش الاقتراح هذا الأسبوع في مؤتمر جنيف، قال ممثل الولايات المتحدة أن تنظيم تجارة الماموث من خلال اتفاقية «CITES» من شأنه أن يتسبب بمزيدٍ من المتاعب التنظيمية ويحول الموارد عن مكافحة تهريب عاج الفيلة، بينما تعتقد فيني أن هناك حاجةً إلى مزيدٍ من الدراسات حول مشكلة تجارة عاج الماموث، وتعتقد أن مسؤولية مراقبتها تقع على عاتق كلٍّ من روسيا والصين، وليس على عاتق المجتمع الدولي بأسره. (عارضت روسيا والصين الإقتراح المُقدم على أساس أن الاتفاقية لا تنطبق على الأنواع المنقرضة).
تقول فيني: «من وجهة نظري، نحتاج إلى التركيز على المشاكل الكبيرة معاً، على محاولة الحد من صيد الفيلة غير المشروع في أفريقيا وتهريب العاج منه إلى الصين. إن تداول عاج الماموث يزيد بشكلٍ كبير غسيل الأموال عبر تجارة وتهريب عاج الفيلة من افريقيا».
على الرغم من أن الاقتراح لم يمر هذه المرة، إلا أن سوزان ليبرمان تأمل في أن يبرز على الأقل الحاجة إلى توخي الحذر من دور تجارة عاج الماموث في زيادة عمليات صيد الفيلة غير المشروعة وتهريب عاجها.