تمتلك الأسماك الرئوية صفات غريبة جداً لطالما أذهلت العلماء، ودفعتهم إلى إجراء المزيد من الدراسات والأبحاث. كان آخر هذه الأبحاث دراسة أُجريت على الغلاف المخاطي الذي يُحيط بالسمكة في موسم الجفاف، الذي كان يُعتقد أنه مجرد غلاف يحافظ على الرطوبة، لكن اكتُشف الآن أنه شكل جديد من آليات الدفاع عن الجسم ضد الميكروبات.
عن الأسماك الرئوية
الأسماك الرئوية هي أسماك تشبه ثعبان البحر، وتتميز بامتلاكها رئة واحدة أو اثنتين. تنتشر أنواعها في الأنهار والبحيرات في إفريقيا وأميركا الجنوبية وأستراليا. أكبرها الأسماك الرئوية الإفريقية، فقد ينمو بعضها ليصل طولها إلى نحو المترين تقريباً.
تتغذى على الديدان وقطع من اللحم والضفادع والأسماك الصغيرة، فمثلاً للسمكة الرئوية الإثيوبية في مقدمة الفك العلوي أسنان مستديرة نوعاً ما، ويحتوي الفك السفلي على عدد من الأسنان أيضاً. تتمتع زعانف هذه الأسماك بحاسة لمس متطورة للغاية، بالإضافة إلى حاسة الشم والتذوق، ما يعوض عن فقدان العين وحاسة النظر.
تمتلك الأسماك الرئوية رئتين بدائيتين مشتقتان من المثانة الهوائية (عضو يستخدم للطفو في معظم الأسماك العظمية). تكون السطوح الداخلية للرئة مغطاة بعدد كبير من التجاويف التي تشبه قرص العسل ومزودة بأوعية دموية دقيقة. ويحدث التبادل الغازي ضمن هذه الحويصلات الهوائية الصغيرة، تماماً كما يحدث عند الفقاريات.
من أجل الحصول على الهواء، تسبح السمكة حتى سطح الماء، وتفتح فمها على مصراعيه، لتحصل على الهواء من فوق الماء، وغالباً ما تُصدر السمكة صوتاً مميزاً أثناء هذه العملية.
في موسم جفاف النهر أو البحيرة، تحفر السمكة الرئوية في القاع للسبات. بعد دفن نفسها في الوحل، تتغلف بغمد مخاطي، يُبقيها على قيد الحياة لأكثر من عامين، لحين عودة الأمطار وانتهاء الجفاف. لكن اكتُشفت حديثاً وظيفة مهمة ومختلفة لهذا الغمد.
غمد الأسماك الرئوية أكثر من مجرد واقٍ من الجفاف
وجد فريق من الباحثين من جامعة نيو مكسيكو وجامعة كاليفورنيا الأميركيتين وجامعة مورسيا الإسبانية، أن الغمد الذي تُغلف به الأسماك الرئوية نفسها، مكوّن من نسيج حي مضاد للميكروبات. وليس مجرد غلاف لا وظيفة له سوى الاحتفاظ بالرطوبة تحت أشعة الشمس الإفريقية الحارة.
في الدراسة التي نُشرت حديثاً في دورية "تطورات العلوم" (Science Advances) العلمية، وجد الباحثون أن غلاف السمكة الرئوية الإفريقية يحتوي على خلايا مناعية (كريات الدم البيضاء المعتدلة «الحبيبية»)، تحارب البكتيريا وتحمي السمكة من الإصابة بالعدوى والتهاب الجلد وفقدان الدم.
وعن طريقة وصول الكريات البيضاء الحبيبية إلى الغمد، اكتشف الباحثون أن هذه الخلايا تُهاجر من الأنسجة نحو الدم ثم إلى الجلد، وذلك في مرحلة تشكل الغلاف المخاطي. عندها أدرك الباحثون أن الغلاف ليس مجرد مخاط، بل هو نسيج حي مذهل.
أظهر التصوير أن هذه الكريات تشكّل في غمد السمكة ما يشبه المصائد تُعيق حركة البكتيريا. عندما أزال الباحثون هذه المصائد من الغلاف، وجدوا أن السمكة الرئوية أصبحت عرضة للعدوى الجلدية والبكتيريا التي تؤدي إلى تسمم الدم. ووجدوا أيضاً أن بعض الالتهابات أدت إلى نزيف.
وعند الدراسة الجينية، وجد الباحثون أيضاً أن العديد من الجينات المسببة للالتهابات يتم تنشيطها، مما قد يساعد الخلايا الحبيبية على البقاء حيّة.
قال «أوريول سونيير»، أخصائي المناعة في كلية الطب البيطري بجامعة بنسلفانيا، ولم يشارك في البحث: «هذه وظيفة جديدة لعضو قديم كان يعتبر مجرد حاجز فيزيولوجي لتجنب جفاف الأسماك. قد نعتبر ذلك شكلاً جديداً من أشكال المناعة، نظراً لأن هذا يمثّل المناعة خارج الجسم».
نُشر جينوم السمكة الرئوية في وقت سابق من هذا العام، لكن لم يكن هناك سوى 60% من الجينات له وظائف معروفة. إلا أن هذه الدراسة أوضحت وظيفة العديد من الجينات التي تعمل في الجلد أثناء تكوّن الغلاف وهجرة الكريات البيضاء الحبيبية.
قرابة المئة عام من الدراسات
ليست هذه الدراسة الأولى التي أشارت إلى وجود علاقة بين جهاز المناعة والغلاف المخاطي للأسماك الرئوية. فقد أشارت ورقة بحثية من عام 1931 إلى أن للكريات البيضاء الحبيبية دور في تكاثر الأسماك الرئوية، بينما أشار آخرون إلى وجود تعداد هائل للكريات البيضاء الحبيبية في الأسماك الرئوية، لدرجة أنه عندما يريد الباحثون دراسة أنواع أخرى من الخلايا، عليهم أن يجدوا طريقة تُبعد الكريات الحبيبية.
في دراسة نُشرت في عام 2018، وجد الباحثون أيضاً دليلاً إضافياً على وجود صلة بين الكريات الحبيبية والغلاف. فقد حلل الباحثون بروتينات مخاط الجلد والغلاف أثناء الانتقال من الرطوبة إلى الجفاف. ووجدوا دلائل على وجود الكريات الحبيبية في بروتينات الغلاف، كما أظهروا أن الكريات الحبيبية، التي توجد عادة في جدار الكلى والأمعاء، تهاجر إلى الجلد أثناء عملية التنشيط التي يستحثها الباحثون في المختبر عن طريق إزالة الماء تدريجياً من أحواض الأسماك الرئوية.
في هذه الدراسة الحديثة، كان عمر الغلاف المخاطي المدروس أسبوعين فقط. يخطط الباحثون للسفر في العام القادم إلى إفريقيا لدراسة الخلايا والميكروبات في أغلفة الأسماك الرئوية التي شكلتها الأسماك منذ شهور.