يعرف النحل جيداً لغة الزهور غير المنطوقة. تفهم هذه المُلقحات الصاخبة العديد من خصائص النباتات المزهرة، مثل شكل الزهرة وتنوع ألوانها ورائحتها الجذابة، ويعتمد عليها النحل لاكتشاف ما إذا كانت كمية الرحيق وحبوب الطلع في أزهارها مجزية. لكن يمكن للنحل أيضاً اكتشاف إشارات النباتات الأخرى بخلاف إشارات الشكل والرائحة. على سبيل المثال، تغطي الشعيرات الدقيقة ذات الحساسية العالية للحقول الكهربائية جسد النحل، وتساعده في تحديد الأزهار. يمكن أن تؤثر هذه الحقول الكهربائية على سلوك النحل في البحث عن الطعام، وإذا ما تغيرت هذه الحقول الكهربائية لسبب خارجي أو اصطناعي ما، فإن سلوك النحل هذا يضطرب.
في دراسة نُشرت مؤخراً في مجلة "بانز نيكسوس"، وجد العلماء أن الأسمدة الاصطناعية الورقية التي يتم رشها على النباتات يمكن أن تغير الإشارات الكهربائية للزهور مؤقتاً، الأمر الذي من شأنه تقليل زيارة النحل الطنان للنباتات. اختبر الفريق أيضاً نوعاً من مبيدات النيونيكوتينويد- يُدعى إيميداكلوبريد- والمعروف بسميته وأثره الضار على صحة نحل العسل، يمكن أن يغير الحقل الكهربائي حول الأزهار. من المثير للاهتمام أن الفريق وجد أيضاً أن المواد الكيميائية لا يبدو أنها تؤثر على الإشارات البصرية والشمية، ما يشير إلى أن هذه الإشارات التي لا نعرف عنها إلا القليل تؤدي دوراً أكبر في تواصل الحشرات مع النبات.
اقرأ أيضاً: هل النحل مهدد حقاً بالانقراض؟
تأثير الحقول الكهربائية على النحل
يقول المؤلف الرئيسي للدراسة وعالم الفيزياء الحيوية الحسية في جامعة بريستول، إلارد هانتنغ: «لكل شيء حقل كهربائي. بالنسبة للحشرات الصغيرة جداً التي تمتلك شعيرات ذات حساسية عالية، مثل النحل، يصبح تأثير هذه الحقول الكهربائية الضعيفة كبيراً جداً عليها».
لم يبدأ علماء الأحياء إلا مؤخراً في فهم مدى أهمية الإشارات الكهربائية في عالم إشارات الأزهار. يمكن للنحل على سبيل المثال التمييز بين الأزهار الأكثر غنى بالموارد ضمن النوع الواحد من خلال قدرتها على التعرف على أنماط بصرية محددة على البتلات، مثل البقع السطحية، وتتذكرها في الزيارات المستقبلية. ولشكل الأزهار أهمية أيضاً، فالزهور الأكبر والأكثر انفتاحاً قد تكون بمثابة وسادة هبوط أسهل للخنافس الأقل رشاقة، بينما الأزهار ذات الشكل الأنبوبي الضيق مناسبة للفراشات التي تمتلك أجزاء فموية طويلة تمكنها من الوصول إلى الرحيق عميقاً داخلها. كما اُكتشف أن لتغيرات الرطوبة حول الزهرة تأثيراً على العثّ الصقر، حيث عادة ما تكون الرطوبة أعلى حول الزهور المتفتحة حديثاً.
تقول عالمة الأحياء التي تدرس بيئة التلقيح في كلية بيتس في ولاية مين، والتي لم تشارك في الدراسة، كارلا إيسينبيرج: «مع ذلك، فإن الإشارات الكهربائية هي أحدث ما اكتشفناه حول طرق تمييز الحشرات بين الأزهار». وجدت دراسة أجريت عام 2016 أن سلوك البحث عن الطعام لدى النحل الطنان يغيّر الحقل الكهربائي للزهرة لنحو دقيقة إلى دقيقتين، واقترح مؤلفو الدراسة أنه حتى هذا التغيير القصير الأمد قد يكون قابلاً للاكتشاف بواسطة النحلات الأخرى العابرة، ويبلغها بأن نحلة أخرى قد زارت الزهرة مؤخراً، وبالتالي لن تكون فيها كمية كافية من الرحيق وحبوب الطلع.
اقرأ أيضاً: ما هي شحنة أسراب النحل وما تأثيرها على الغلاف الجوي؟
تعتمد الأزهار في إنشاء حقلها الكهربائي الطبيعي إلى حد كبير على إمكاناتها الكهربائية الحيوية، أو بكلام آخر تدفق الشحنة الذي يُنتج بواسطة الكائنات الحية أو التي يحدث داخلها. ويقول هانتنغ موضحاً: «لكن الحقول الكهربائية ظاهرة ديناميكية. عادة ما تتمتع الأزهار بسعات حيوية كهربية سالبة بينما يتمتع النحل بسعات كهربية موجبة. وهكذا، يمكن للنحل استشعار المجال الكهربائي للزهرة بمجرد اقترابه منها». وتؤدي الرياح وهبوط النحل على الأزهار وغيرها من التفاعلات الأخرى إلى حدوث تغييرات لحظية في إمكانات الزهرة الكهربية الحيوية والحقل الكهربائي المحيط بها. بعد معرفة ذلك، خطرت لهانتنغ فكرة دراسة أي تغييرات في الحقل الكهربائي يمكن أن تنجم عن التطبيقات الكيميائية على النباتات، وما إذا كان لها دور في تقليل زيارة النحل إليها.
مبيدات الآفات وتأثيرها على تغير الحقل الكهربائي
بدأ هانتنغ بدراسة مبيدات الآفات بالنظر إلى تأثيراتها الموثقة جيداً على الحشرات. يقول هانتنغ: «ولكني أدركت بعد ذلك أن للأسمدة شحنة أيضاً، وهي مستخدمة على نطاق واسع». غالباً ما تحتوي هذه الخلائط الكيميائية المستخدمة في الزراعة والحدائق على كميات متفاوتة من النيتروجين والفوسفور والبوتاسيوم، ويضيف هانتنغ: «يستخدم الجميع الأسمدة التي يُزعم أنها غير سامة».
أجرى هانتنغ وزملاؤه في البداية تجربة في موقع ميداني ريفي في حرم جامعة بريستول لتقييم سلوك النحل الطنان في البحث عن الطعام مستخدمين نبتتي خزامى مزروعتين في أُصص. حيث قاموا برش خليط الأسمدة الورقية المتوفر تجارياً على إحدى النبتتين المحفوظتين في أصيص، بينما رشوا النبات الآخر بمياه منزوعة المعادن. بعد ذلك، رأى الفريق أن النحل الطنان يتجنب زيارة نبات الخزامى الذي تم رشه بخليط الأسمدة. وجد الفريق أن المحاليل التي تحتوي على المبيدات أو الأسمدة قد غيرت القدرة الكهربية الحيوية للزهرة لمدة تصل إلى 25 دقيقة، وهي مدة أطول بكثير من مدة التغييرات التي تسببها الرياح أو زيارات النحل.
ولكن لتأكيد أن النحل تجنب الأسمدة بسبب التغيير في الحقل الكهربائي، وليس بسبب المركبات الكيميائية أو العوامل الأخرى، كان على الباحثين إعادة إنشاء التغير في الحقل الكهربائي للزهرة، دون رشها بالأسمدة. في فناء منزل خلفي، وهو مكان طبيعي خالٍ من مصادر الكهرباء الأخرى تبلغ مساحته مساحة ملعبٍ لكرة القدم، تلاعب هانتنغ بالإمكانات الكهربية الحيوية لنباتات الخزامى من أجل محاكاة تغيير حقلها الكهربائي. وضع ساق النبات في الماء ووصلها بأقطاب كهربائية، ثم بث تياراً كهربائياً فيها باستخدام بطارية، ما خلق حقلاً كهربائياً حول النبات يماثل الحقل الكهربائي الذي يولده رش السماد الورقي.
اقرأ أيضاً: كيف يحافظ السلوفينيون على صحة النحل؟ درس للكوكب بأكمله
ولاحظ أن النحل تجنب الهبوط على الأزهار التي تم التلاعب بحقلها الكهربائي على الرغم من أنه حاول الاقتراب منها أولاً، ويقول هانتنغ إن النحل اقترب بدرجة أقل بكثير من هذه الأزهار مقارنة بأزهار التحكم، ويضيف: «هذا يدل على أن عامل الحقل الكهربائي أثار لوحده بالفعل سلوك تجنب لدى النحل».
ويقترح هانتنغ أن التغير الكهربائي في الأزهار قد تعود جذوره في الأساس إلى آلية دفاعية للنبات. يقول في هذا الصدد موضحاً: «عندما تقوم بتطبيق مواد كيميائية على الخلايا النباتية، يثير ذلك استجابة إجهاد كيميائي في النبات تشبه استجابتها للجروح، حيث يرسل النبات المستقلبات، والتي تتمتع بشحنة أيونية، للبدء بإصلاح الأنسجة التالفة، فيولد تدفقها تياراً كهربائياً يكتشفه النحل».
ولاحظ الباحثون أيضاً أن المواد الكيميائية لا يبدو أن لها تأثيراً على الإشارات البصرية أو إشارات الرائحة، وأن النباتات التي تم رشها بالمبيدات أو بالأسمدة بدت وكأنها شهدت تغيراً في المجال الكهربائي مرة أخرى بعد هطول الأمطار، الأمر الذي كان مثيراً للاهتمام. قد يشير ذلك إلى أن التأثير يستمر لما بعد رش النبات مرة واحدة. يقول الباحثون إن النتائج الجديدة قد تكون لها آثار على البستانيين غير الرسميين والقطاعات الزراعية الرئيسية.
ويقول هانتنغ موضحاً: «من الناحية المثالية، يمكن استخدام الأسمدة في التربة بدلاً من رشها مباشرة على النباتات. لكن ذلك سيتطلب عمالة أكثر مقارنة بالنهج الذي تتبعه العديد من قطاعات الزراعة الأميركية، والذي يعتمد على رش الأسمدة على النباتات مباشرةً في حقول شاسعة بواسطة الطائرات».
اقرأ أيضاً: في اليوم العالمي للنحل نتساءل: ماذا سيحدث لو اختفى؟
تغييرات قصيرة نسبيّاً
وتقول إيسينبيرج إنه ولحسن الحظ، فإن التغييرات في الحقل الكهربائي قصيرة العمر نسبياً، ما يسهل على المزارعين اللجوء إلى حلول بديلة. على سبيل المثال، يمكن رش المواد الكيميائية الزراعية خلال منتصف النهار، أي في الوقت الذي يقل فيها نشاط الملقحات بحثاً عن الغذاء نظراً لأن الكثير من الأزهار تتفتح صباحاً وعادة ما تنفد منها حبوب الطلع والرحيق بحلول ذلك الوقت.
وتضيف إيسينبيرج: «ربما يكون لسمية المواد الكيميائية التي تُرش على النباتات، كسماد أو مبيدات، دور أكبر في تدهور أعداد النحل». لكن هذه الدراسة الجديدة تطرح فكرة جديدة تفيد بأنه يجب أن تؤخذ التغيرات في الإمكانات الكهربية للنبات بعين الاعتبار من أجل رش النباتات بفعالية أكبر. وتقول إيسينبيرج: «تطرح هذه الدراسة أسئلة حول العوامل الأخرى التي قد تؤثر على إمكانية النبات الكهربية، مثل ملوثات الهواء أو الملوثات التي تحملها مياه الأمطار معها.
اقرأ أيضاً: المبيدات الحشرية تجعل النحل أقل ذكاء
سيكون من المفيد دراسة آثار تغيرات الحقل الكهربائي للنباتات في ظل ظروف بحث أكثر واقعية وعلى مدى فترات زمنية أطول». ويتفق هانتنغ مع هذا الرأي ويقول: «ربما يكون لهذه الظاهرة تأثير على المدى الطويل، ولكننا بحاجة إلى إجراء المزيد من البحث حول هذه الآلية الجديدة الكامنة وراءها».