تعد شبكات العنكبوت واحدة من أروع عجائب الطبيعة. إذ أن العناكب، مع امتلاكها أدمغة صغيرة جداً، يمكنها أن تنسج شباكاً هندسية معقدةً ومذهلة، لطالما أثارت إعجاب البشر، لكننا لم نفهم إلّا مؤخراً كيف تقوم بذلك.
اكتشف باحثون من جامعة «جونز هوبكنز» الأميركية الطريقة التي تنسج فيها العناكب شباكها، وذلك بالاستعانة بتقنيات الرؤية الليلية والذكاء الاصطناعي، بعد تتبع حركات الأرجل الثمانية للعنكبوت في الظلام وتسجيلها. ونُشرت الدراسة في الدورية العلمية «علم الأحياء الحالي» (Current Biology).
ما نعرفه عن نسج العنكبوت لشباكه؟
تصنع جميع أنواع العناكب مادة الحرير، لكن لا تنسج جميعها شباكاً. ويمكن للعنكبوت الواحد أن يصنع ما يصل إلى 7 أنواع مختلفة من خيوط الحرير، ولكن بشكل عام يصنع 4 إلى 5 أنواع.
يتكون الحرير من سلاسل بروتينية متصلة تساعد في جعل خيط الحرير قوياً، وفيها أماكن عدم اتصال تمنحه المرونة. يبني كل نوع من أنواع العنكبوت شبكة مميزة، إذ يمكن معرفة نوع العنكبوت من شكل شبكته.
يُنتج العنكبوت خيوط الحرير من غدد داخلية، ويكون الخيط سائلاً في البداية، ثم يتصلّب ويُنسج بواسطة مغازل موجودة في بطن العنكبوت. يبدأ العنكبوت بسحب الحرير من الغدة بالساق الرابعة. ويستخدم الساق الرابعة المقابلة لسحب خيوط متعددة من الحرير من نحو 20 غدة حرير إضافية، مكوّناً بنية تشبه البالون. ينتظر العنكبوت نسيم الهواء ليأخذ الحرير إلى الجهة المقابلة، ثم يسحب العنكبوت خيطاً آخر ويكمل بناء الإطار الخارجي للشبكة، ثم يدور بشكل لولبي ليبني الشبكة من الخارج نحو الداخل، لتصبح الشبكة مثل دوائر متحدة المركز.
يستخدم العنكبوت سيقانه الثمانية لبناء الشبكة، لكن ما لا نعرفه هو كيف ينسّق العنكبوت العمل بينها. وهذا ما تمكن الباحثون من فهمه في الدراسة الجديدة.
اقرأ أيضاً: العلماء يعلّمون إحدى العناكب القفز حتى يتمكنوا يوماً ما من فعل الشيء ذاته مع الروبوتات
الكشف عن أسرار شبكة العنكبوت
لفت ابن الباحث «أندرو جوردوس»، عالم الأحياء السلوكية في جامعة جونز هوبكنز، نظره لهذا الموضوع، بعد رؤيته لشبكة العنكبوت متقنة الصنع، وشعر بالأسف لأن الإنسان لا يعرف الكثير عن كيفية نسج العنكبوت لشباكه بهذه الدقة الهندسية رغم أن للعناكب دماغاً صغيراً جداً.
لا تنسج جميع أنواع العناكب شباكاً، لكن فُتن البشر لقرون بالعناكب التي تنسج الشباك باستخدام حاسة اللمس فقط، إذ تعتبر العناكب من الحيوانات العمياء. ومن أجل فهم الطريقة التي يبني فيها العنكبوت شبكته، يجب على الباحثين توثيق وتحليل السلوكيات والمهارات الحركية له بشكل منهجي، وهذا ما لم يدرسه أحد من قبل.
أجرى الباحثون الدراسة على إناث أحد أنواع العناكب، كون الذكور نادراً ما تنسج الشباك. يسمى هذا النوع «عنكبوت الجرم السماوي»، أو «غازل النسيج الدائري» (orb weaver)، وهو عنكبوت موطنه الأصلي غرب الولايات المتحدة الأميركية، يبني شباكه ليلاً، وبطريقة لولبية على شكل عجلة، وهو صغير جداً لدرجة أن بإمكاننا وضعه على أطراف الأصابع. يبني شباكه على مدار العام، ما يسهل على الباحثين دراسته.
صمم الباحثون مكاناً خاصاً فيه كاميرات مراقبة ليلية تعمل بالأشعة تحت الحمراء، لمراقبة 6 من العناكب أثناء نسج الشباك كل ليلة. لكن «حتى لو سجلنا مقاطع الفيديو، هناك الكثير من الأرجل لتتبعها، على مدى فترة طويلة، لعدد من الأفراد»، على حد تعبير «آبيل كورفر» المؤلف الرئيسي للدراسة، وهو طالب دراسات عليا يدرس آلية بناء الشبكات وعلم وظائف الأعضاء العصبية.
لتسهيل المهمة، صمم الباحثون برنامج رؤية آلي يمكنه اكتشاف حركة الأطراف، وتتبع حركات كل رجل من أرجل العنكبوت الثمانية، وتحديد وضعية العنكبوت في كل نقطة على شبكته، حتى أصبح بالإمكان توثيق كل ما تفعله أرجله لبناء شبكة كاملة.
بتحليل البيانات التي جمعها البرنامج، اكتشف الباحثون أن العناكب تنسج شباكها بطريقة منظمة للغاية. ففي البداية يستكشف العنكبوت المكان ويبني نموذجاً أولياً، لا يكون منظماً إلى حد ما، وهناك فترات توقف طويلة غير منتظمة في نشاط العنكبوت أثناء بناء شبكته الأولية، تصل أحياناً إلى ثماني ساعات. يُعتقد أن هذه المرحلة هي مرحلة استكشافية يقيّم فيها العنكبوت السلامة الهيكلية لمحيطه وتحديد نقاط الارتكاز للشبكة النهائية.
يبني العنكبوت بعد ذلك إطار الشبكة وعدة أنصاف أقطار، وهي الخيوط التي تمتد من المركز إلى الحافة. ثم يكمل نسج الشبكة بشكل حلزوني، خلال بضع دقائق. يعتقد الباحثون أن هذه المرحلة تساعد في استقرار الهيكل. في النهاية، يتجول العنكبوت في شبكته منتظراً فريسته.
أوضحت النتائج أيضاً أن الطريقة التي تتبعها جميع العناكب متشابهة، لدرجة أن الباحثين كانوا قادرين على التنبؤ بالجزء من الشبكة الذي سيعمل عليه العنكبوت بمجرد رؤية مواقع سيقانه فقط.
يقول جوردس في هذا السياق: «حتى لو كان الهيكل النهائي مختلفاً بعض الشيء، فإن القواعد التي تستخدمها العناكب لبناء الشبكة هي نفسها، جميعها تستخدم نفس القواعد، ما يؤكد أن القواعد مشفرة في أدمغتها. الآن نريد أن نعرف كيف يتم تشفير هذه القواعد على مستوى الخلايا العصبية».
ويضيف كورفر: «إن العنكبوت رائع، فهو حيوان له دماغ مبني على نفس اللبنات الأساسية مثلنا، وهذا العمل يمكن أن يعطينا تلميحات حول كيفية فهم أنظمة عمل الأدمغة الأكبر، بما في ذلك أدمغة البشر، وأعتقد أن هذا مثير للغاية».
في هذا البحث، تمكن الباحثون من دراسة جميع الحركات التي يقوم بها العنكبوت لبناء شبكته، وهو ما لم يُجره أحد على أي بنية حيوانية بهذه الدقة. والهدف المستقبلي للباحثين هو إجراء تجارب على دماغ العنكبوت لتحديد الخلايا العصبية والآلية الدماغية المسؤولة عن المراحل المختلفة لبناء الشبكة.