في كل عام، بينما يتابع الصيادون ومراقبو الطيور هجرة الطيور المائية، يتأمل الكثيرون منهم أسراب الطيور المهاجرة جنوباً ويتساءلون: كم يستطيع البط أن يقطع في اليوم الواحد؟ في وقت سابق من الشهر الماضي أعطتنا بطة بلبول الشمال (pintail) الإجابة.
كانت تلك البطة جاثمة على بركة مياه في شرق روسيا عندما شعرت بالحاجة إلى العودة إلى قارتها الأصلية. ومع توفر ظروف الرياح المثالية، انطلقت نحو الساعة العاشرة والنصف مساءً وكانت تحلّق فوق بحر بيرينغ بحلول منتصف الليل. مع سرعةٍ أرضية تصل إلى 240 كيلومتراً في الساعة، ظلت بطة بلبول الشمال تحلق في الجو فوق جنوب شرق ألاسكا وحتى شمال المحيط الهادئ، وبعد 25 ساعة وقطع نحو 3200 كيلومتر، هبطت البطة أخيراً في أرض رطبة في مكان ما في شمال كاليفورنيا.
16 ألف كيلومتر خلال 10 أشهر
قطعت البطة نحو 16 ألف كيلومتر خلال الأشهر العشرة الماضية، ولكن رحلتها لم تنتهِ بعد. ستأخذها وجهتها الأخيرة في رحلة عبر المحيط الهادئ وممرات هجرة الطيور المركزية إلى ساحل الخليج في لويزيانا، حيث وضع الباحثون في يناير/ كانون الثاني الماضي عليها جهاز تتبع لمراقبتها.
يقول كبير الباحثين في مجال الطيور المائية في وزارة الحياة البرية ومصائد الأسماك في لويزيانا، بول لينك: «إنه أمر لا يصدق. إنه أول طائر رأيته يفعل هذا. نحن في طريقنا إلى الجنوب الشرقي هنا، ومعظم طيور البلبول لا تعبر 3 مسارات طيران على هذا النحو. بالتأكيد، وعلى حد علمي، لم يعبر أي منها إلى قارة مختلفة».
لكنها لم تكن البطة الوحيدة التي قامت بمثل هذه الهجرة الملحمية. بعد أيام من قيام لينك بتتبع رحلة أحد طيور البط هذه، اكتشف أن بطة أخرى تحمل جهاز تتبع آخر قد سلكت طريقاً مشابهاً محلقةً إلى روسيا والعودة مرة أخرى. ويقول لينك إن البطة موجودة حالياً حول غريت فولز (Great Falls) في مونتانا، ويتوقع أن تعود كلتا البطتين إلى لويزيانا في الأسابيع القليلة المقبلة.
اقرأ أيضاً: كيف يمكنك مراقبة حركة هجرة الطيور اعتماداً على بيانات الطقس؟
يعبّر هذان المثالان عن حالتي هجرة تتسمان بمسافة بعيدة وبسرعة انتقال عالية. وفقاً لمؤسسة "دوكس أنليميتيد" (Ducks Unlimited) غير الربحية، والمكرسة للحفاظ على الأراضي الرطبة وموائل المرتفعات المرتبطة بالطيور المائية والحياة البرية الأخرى، فإن معظم الطيور المائية تطير بسرعة تتراوح بين 65 و95 كيلومتراً في الساعة، ومع رياح خلفية مساعدة تبلغ سرعتها 80 كيلومتراً في الساعة، يمكن أن يقطع البط نحو 1300 كيلومتر خلال رحلة مدتها 8 ساعات. عادة ما يتعين على البط الاستراحة لعدة أيام وتناول الطعام بعد رحلة طويلة كهذه، مع ذلك، تسمح لنا تكنولوجيا تتبع جديدة بتكوين صورة أفضل عن المسافة التي يمكن أن يقطعها البط خلال هجرته، ولماذا قد يقطع هذه المسافات الطويلة.
استخدام تكنولوجيا جديدة لتتبع الطيور
يدرس لينك هجرات الطيور المائية منذ 14 عاماً تقريباً. كان يعمل في السابق منسقاً إدارياً لخطة إدارة الطيور المائية التي تديرها وكالة الحياة البرية ومصايد الأسماك في لويزيانا (LDWF)، ويعمل الآن بدوام كامل باحثاً في الوكالة. يقول لينك إن هذه السنة ستكون السنة الرابعة على التوالي التي يقضيها في تتبع طائر بلبول الشمال، ولكنه درس كل أنواع الطيور المائية تقريباً على مر السنين، من الإوز الأبيض الجبهة وحتى البط البري أزرق الجناحين.
يقول لينك إن التقدم في تكنولوجيا أجهزة الإرسال قد قاد إلى نقلة نوعية في مجال أبحاث الطيور المائية. عادة ما يستخدم لينك أجهزة إرسال تقليدية على شكل حقيبة ظهر تزن نحو 15 غراماً، ولكن في عام 2019 نجح في الحصول على أجهزة إرسال أخفّ تزن 10 غرامات فقط. أجهزة الإرسال هذه مجهزة بألواح شمسية متناهية الصغر تبقيها مشحونة لفترة طويلة، ويضيف لينك أن بعضها ظل يعمل عبر هجرات متعددة. لقد سمح الحجم الصغير لجهاز الإرسال للينك باختبار طريقة ربط جديدة أقل إرهاقاً للطيور.
يقول لينك لمجلة أوتدور لايف في هذا الشأن: «تنطوي الطريقة الجديدة على عمل ثقب صغير في الجلد على ظهر الطائر لربط جهاز الإرسال به. لم نستخدم حزاماً أو حلقات تقليدية للرقبة والجسم لربط الجهاز إلى الطائر مثل معظم أجهزة الإرسال التي كنا نستخدمها في الماضي».
اقرأ أيضاً: شاهد هذه الخريطة التفاعلية التي تنقل تفاصيل مذهلة لهجرة الطيور
وعلى العكس من أجهزة الإرسال القديمة التي تعتمد على تكنولوجيا الترددات العالية جداً (VHF)، والتي تتطلب من الباحثين جهداً كبيراً في البحث عن الإشارات التي تبثها، تعتمد أجهزة الإرسال الجديدة خفيفة الوزن على تكنولوجيا "جي بي إس- جي إس إم" (GPS-GSM)، والتي تعتمد على شبكات الهواتف الخلوية لنقل البيانات في الوقت الفعلي، وبالتالي طالما كان الطائر في نطاق تغطية شبكات الخلوي، يمكن للينك تتبع موقعه ساعة بساعة، بالإضافة إلى معلومات أخرى مثل مسار الطائر وسرعة طيرانه.
من خلال العمل مع طلاب الدراسات العليا في شهر يناير/ كانون الثاني الماضي، تمكن لينك من تركيب أجهزة الإرسال الجديدة على 30 طائر بلبول باستخدام طريقة الربط الجديدة التي ابتكرها، كما ركّب أجهزة إرسال أثقل قليلاً على شكل حقيبة على 27 طائر بلبول آخر. تم الإمساك بجميع هذه الطيور التي بلغ عددها 57 طائراً في محمية روكفلر للحياة البرية على الساحل الجنوبي الغربي لولاية لويزيانا.
وخلال فصل الربيع الماضي، تابع لينك وطلابه حركة هذه الطيور أثناء توجهها شمالاً نحو منطقة براري بوثول (Prairie Pothole Region) حيث كانت تقيم معظمها أعشاشها كل صيف.
يقول لينك: «يومياً، كان أول شيء أفعله صباحاً وآخر شيء أفعله في الليل إلقاء نظرة على لوحة التحكم لمعرفة مكان كل الطيور».
عندما تفقّد لوحة التحكم في أحد الأيام في أواخر أبريل/ نيسان، لاحظ أن إحدى النقاط الخضراء، والتي تمثل كل منها طائراً من طيور البلبول، قد اختفت عن الشاشة. لم يستغرب لينك ذلك، إذ يقول إنه لاحظ من خلال تجربته أن 50% من طيور بلبول الشمال التي تحمل أجهزة تتبع فقط تميل إلى البقاء على قيد الحياة من عام إلى آخر. (ويقر لينك بأن تركيب أجهزة الإرسال عليها ربما يخفض فرصتها في البقاء على قيد الحياة).
يقول لينك: «غابت إشارة هذا الطائر بالذات في جنوب شرق داكوتا الشمالية في أواخر أبريل، ومنذ ذلك الوقت، افترضنا أن مكروهاً قد حصل له. وبحلول أكتوبر/ تشرين الأول، كنا سنعتقد حتماً أنه ربما قتل في عشه أو أن حيواناً مفترساً اصطاده».
كان لينك مخطئاً تماماً.
اقرأ أيضاً: حكاية علمية: نظريات غريبة فسّر بها البشر هجرة الطيور
إلى روسيا والعودة
لم يكن لينك متأكداً تماماً من التاريخ، ولكن في وقت ما بين الثاني والرابع من أكتوبر/ تشرين الأول، رأى أن أحد أجهزة الإرسال قد عاد إلى الاتصال مجدداً مرسلاً الإشارات من مكان ما في شمال كاليفورنيا. كان يشتبه في أن صياداً قد قتل البطة.
يقول لينك: «قلت لنفسي لا بد وأن شيئاً سيئاً قد حدث. ربما يدل ذلك على أن شخصاً ما ذهب من كاليفورنيا إلى داكوتا وأطلق النار عليها. لكني نقرت فوق النقطة الخضراء التي تمثلها على لوحة التحكم ووجدت أنها كانت أحد طيور البلبول. نقرت لإظهار تفاصيل المسار متوقعاً أن أراه يمر من مطارٍ لآخر، لكن تفاجأت بما رأيت. كان مسارها يمتد على طول الطريق عبر الشمال إلى ألاسكا، ثم يصل إلى روسيا ويعود عبر المحيط الهادئ إلى شمال كاليفورنيا. تحققت من كل شيء، ومنذ ذلك الحين أرسل الجهاز إشارات عدة مرات. كانت البطة تتجول في أنحاء منطقة سوتر باتس، تماماً كما تفعل طيور البط الأخرى».
فوجئ لينك بما اكتشفه، لكن صدمته كانت أكبر بعد أيام قليلة عندما اكتشف أن أحد طيور البط التي زودها بأحد أجهزة التعقب القديمة قد سلكت "طريقاً مشابهاً مخيفاً" إلى روسيا حسب تعبيره.
يقول لينك: «في الواقع، كانت مواقع البطتين تبعد عن بعضها بعضاً بضع مئات الأمتار فقط في ثلاث نقاط مختلفة خلال مسار هجرتها بين روكفلر وروسيا. من الصعب تصديق ذلك، لكنهما كانتا في نفس الأراضي الرطبة في نفس الوقت في شمال شرق ولاية ساوث داكوتا، وفي روسيا، كانتا على بعد مئات الأمتار عن بعضهما بعضاً فقط، ولكن بفارق 5 أسابيع».
ويضيف لينك: «في كل مرة أرى شيئاً كهذا، أتمنى لو أني أستطيع ركوب الطائرة والذهاب إلى ذلك المكان لإلقاء نظرة عليه. إنه أمر غير عادي عندما تزور طيور البط نفس المكان، أو نفس الضفة من نفس النهر».
على الرغم من أن مسار طائري البط كانا متشابهين، فإن قصة كل طائر مختلفة بعض الشيء. لقد وجد لينك، ومن خلال الفحص الدقيق لبيانات جهاز الإرسال التي تُظهر بالضبط المدة التي بقي فيها كل طائر في مكان واحد، وجد أن أول بطة حاولت التعشيش في ساوث داكوتا في أوائل أبريل/ نيسان. لكنها فقدت عشها بعد ثمانية أيام، يفترض لينك أن بطة أخرى قد سلبته منها، ثم غادرت إلى روسيا بعد ذلك. بينما لم تحاول البطة الثانية التعشيش مطلقاً قبل الذهاب إلى روسيا.
يقول لينك: «عندما عبر هذا الطائر عبر داكوتا الشرقية هذا الربيع، كانت الأرض لا تزال مقفرة بنية اللون، وكانت الأراضي شبه الرطبة دائماً عبارة عن طبقة من الجليد. ولذلك، قطعت 6500 كيلومتر أخرى بالفعل ولم تهتم مطلقاً ببناء عش لها. ربما قالت لنفسها إنه ليس عاماً مناسباً لإقامة عش، ولن أخاطر بصحتي وأهدر طاقتي هنا».
الهجرات القسرية
لا تعطي هذه الرحلة الملحمية لهاتين البطتين باحثي الطيور المائية فكرة مثيرة للاهتمام بدراستها فحسب، بل يمكن أن تكون أيضاً دليلاً على أن طائري البلبول اُضطرا إلى الهجرة أبعد إلى الشمال بسبب تغيّر المناخ وفقدان الموائل. لقد أبلغت مجلة أوتدور لايف الشهر الماضي عن انخفاض أعداد بط بلبول الشمال المستمر في المسح الذي أجرته هذا العام عن الطيور المائية، وقد افترض أحد العلماء أننا ربما بحثنا عن هذه الطيور في المكان الخطأ أثناء إجراء مسوحاتنا.
يقول عالم الأحياء في مؤسسة "دلتا ووترفاول" (Delta Waterfowl) غير الربحية التي تعمل في مجال حفظ الطيور المائية، الدكتور كريس نيكولاي موضحاً: «ربما يكون السبب فقدان الطيور لموائلها، أو ربما كانت تبحث عن موائل جديدة في الشمال بسبب تغيّر المناخ، وقد بدأت للتو بالانتقال من المناطق التي نقوم بمسحها، لذلك لم نجدها هناك».
ناقش لينك وباحثون آخرون فرضية الهجرة القسرية أيضاً، ويقول لينك إن الأمر كان كذلك بالضبط بالنسبة لطائر البلبول الثاني الذي طار إلى روسيا. فبعد أن قرر عدم التعشيش في منطقة براري بوثول، غادر منطقة المسح قبل الأول من مايو/ أيار ولم يتم إحصاؤه ضمن أعداد البط هذا العام.
كما يقول لينك إنه من المنطقي أن تميل الطيور أكثر من السابق إلى الانتقال إلى أقصى الشمال بسبب فقدان موائلها الشديد في منطقة براري بوثول. وبالنظر إلى أن البلبول الشمالي يهاجر في وقت أبكر من طيور البط الأخرى، فلا يمكنه التجول فقط والانتظار حتى تتحسن الظروف في سنةٍ جافة- وهذا ما يفعله البط السُماري والبط البري والكثير من الطيور التي تعشش في وقت لاحق متوسط أو متأخر.
يقول لينك موضحاً: «ليس الأمر سهلاً لبط بلبول الشمال، إذ إنها ترى وسطها المحيط إما جيداً جداً أو سيئاً جداً. فإذا لم تكن الظروف مثالية، فلن يحاول الكثير منها حتى بناء عش. تنجذب هذه الطيور إلى منقطة براري بوثول ذات العشب القصير، لكن هذه المنطقة شهدت تحولاً كبيراً إلى زراعة المحاصيل المُصففة في السنوات الأخيرة، ويُقدر أن 1.8 مليون فدان من أراضي براري بوثول قد تم تحويلها إلى زراعة المحاصيل الزراعية الموسمية في العام الماضي لوحده».
اقرأ أيضاً: علماء يتجسسون على الطيور المهاجرة باستخدام تلسكوب فضائي أثناء نومك
الكشف عن أسرار الطيور
من الواضح أنه لا يزال لدينا الكثير لنتعلمه عن طيور بلبول الشمال إذا ما نظرنا إلى نتائج تتبع الطيور في هذه التجربة التي بدأها لينك وطلابه في لويزيانا في شهر يناير/ كانون الثاني. كانت البطتان اللتان هاجرتا بعيداً وتتبعهما لينك الأكثر إثارة للاهتمام بين أفراد المجموعة، ولكن من المرجح أن حالتهما لم تكن شاذة، لأن ما فعلتاه يمكن أن يفعله الكثير من البط.
لم تنجُ 8 أو 9 من الطيور المعلّمة على الأقل خلال موسم التعشيش، حيث عثر لينك وباحثون آخرون على أجهزة الإرسال التي كانت مربوطة إليها في داكوتا وكندا. في غضون ذلك، كان من المحتمل أن تتمكن بطتان أخريان من المجموعة، لا يزال لينك يتتبعهما، من الوصول إلى روسيا هذا الصيف، لكنهما عادتا بدلاً من ذلك، الأمر الذي وجده لينك شيئاً أكثر إثارة للاهتمام.
يقول لينك موضحاً إنه على الرغم من أن الظروف في منطقة براري بوثول كانت قاتمة في أوائل أبريل/نيسان، فإن الظروف تحسنت كثيراً في نهاية الشهر بعد أن ضربت المنطقة عاصفتان ثلجيتان كثيفتان.
ويقول لينك في هذا الصدد: «لدينا بطتان علمتا بتحسن الظروف في المنطقة بطريقة ما. لقد كانتا على حافة الغابات الشمالية وسط كندا، واستدارتا عائدتين إلى شرق داكوتا وعششتا بنجاح».
كما يرى لينك، هناك تفسير واحد فقط يشرح سبب عودة البط إلى داكوتا، وإلا لماذا ستعود إلى مكان غادرته قبل أسابيع معتبرة إياه غير مناسب للتعشيش؟
اقرأ أيضاً: ما هو الهدف من مشروع إيكاروس لإنشاء خريطة حية لحيوانات الأرض؟
يقول لينك: «لا يوجد سبب يفسر ذلك سوى تواصل الطيور مع بعضها بعضاً. من الواضح أن البط يتبادل المعلومات، ولديه شبكة من الاتصالات نستهين بها. أنا متأكد من أن طائراً كان جالساً في مكان به مياه في الشمال عندما وصل طائر آخر إليه وأخبره بطريقة ما بأن كمية المياه في داكوتا هائلة الآن. إنها في كل مكان وتملأ حتى الشوارع». ويضيف لينك: «تحدث أشياء من هذا القبيل حقاً ولن يقنعني أحد بخلاف ذلك».
قد لا يفهم باحثو الطيور المائية ما الذي تقوله طيور البط تماماً عندما تصدر أصواتها المحببة، أو لماذا يبقى أحدها في داكوتا بينما يطير آخر إلى روسيا. لكن ذلك لن يمنع لينك والآخرين من المحاولة لمعرفة ذلك.
يقول لينك أخيراً: «بينما نحاول اكتشاف كل هذه الأسرار الصغيرة، يفاجئنا البط بأن لديه أسراراً أخرى لم نكن نعرفها».