لا ينبغي لأنثى الحوت القاتل المسماة "ويكي" أن تعرف كيف تقول "إيمي". فالإنجليزية ليست لغتها الأولى تماماً، وإصدار الصوت الذي يمثل المقطع "إم" يشكل تحدياً لك عندما تحاول التحدث عبر أنفك وزوج من الأغشية المهتزة. ومع ذلك فإن مدربي ويكي حاولوا تعليمها لتنطق ذلك مثل هذه الأحرف.
هذا الأمر ليس مجرد إرضاء لغرور فتاة تدعى إيمي، وهو ليس حيلة لإبهار الجمهور، أو محاولة لدفع الصحافيين الجاهلين بالبحث لتغطية العمل على ورقة علمية. وإنما هو جزء من جهود مشروعة لتفسير كافة الرموز التي تشكل التراكيب اللغوية التي قد تستخدمها الثدييات البحرية (الحيتانيات) مثل ويكي.
تكمن مشكلة فهمنا للغة الحيوانات وطريقة تواصلها – وهذا ما سيظهر بوضوح لاحقاً – هو أننا لا نعلم ما الذي يدور في أدمغتها.
يمكن للمزارع أن يدرب كلبه (قد يكون من نوع بوردر كولي) على فهم واتباع المئات من الأوامر، وقد يبدو الأمر وكأن الكلب يدرك ما تعنيه عبارة مثل "اذهب واعثر على الدمية الزرقاء". ولكننا لا نعلم ما هو المستوى الذي تفهم وفقه الكلاب.
كل ما نعلمه هو أن الكلب يمكنه الاستجابة في نهاية المطاف من خلال استعادة الدمية الصحيحة. يعتقد الباحثون أن الكلاب تفهم أجزاء من لغة البشر أكثر تعقيداً من مجرد كلمات مفردة، ولكن لا يمكننا في الواقع أن نعرف كيف يتعامل كلب من نوع كولي مع كل من هذه المقاطع الصوتية. حتى أننا لا نعلم حقيقة ما الذي يدور في رأس الكلب.
كذلك الأمر بالنسبة للحيتان القاتلة، الدلافين، وطيور الببغاء الأفريقية الرمادية، باستثناء أن هذه المخلوقات يبدو أنها تفهم اللغة أكثر من الكلاب. والأكثر من ذلك هو أنها قادرة على التقليد.
تفتقر معظم الحيوانات للبنية الفيزيولوجية اللازمة لإصدار الأصوات البشرية. فنحن لدينا حبال صوتية (ونتحكم بها بمهارة غير عادية) في حين معظم الحيوانات ليس لديها شيء مماثل.
تعتمد الحيتان القاتلة والدلافين في تواصلها على الصفير، وبالتالي فإن النطق مثل البشر يعد أمراً مستبعداً. ولكن الباحثين الذين يدرسون التواصل عند الحيوانات بحاجة لتوسيع حدود معرفتهم لكي يفهموا القدرات التي تمكّن المخلوقات الأخرى من التعلم والتحدث. أو كما تقول ديانا ريس خبيرة الدلافين، إنها أسئلة هامة لكي نطرحها "إن كان اهتمامك بالحيوانات لا يقتصر على معرفة ما تفعله، بل يتجاوز ذلك إلى معرفة ما الذي بإمكانها أن تفعل".
إن كان كل ما فعلته ريس هو مراقبة الدلافين في البحار فقط، فلا شك أنها تعلمت الكثير عن سلوك الدلفين. ولكنها لن تقدر على طرح أسئلة استقصائية للاستفسار عن قدرة الدلافين على التعلم، وتحديد الارتباطات التي تشكلها بين الكلمات والأصوات. ولكنها قادرة على البحث بصورة أعمق في المختبر.
إن الغرض من تعليم حيوان ما بعض مفردات اللغة الإنجليزية ليس جعله يتحدث بلغتنا، بل يتعلق الأمر أكثر بفهم الطريقة التي يتعلم بها الحيوان عندما يواجه شيئاً غير مألوف على الإطلاق. نعلم مسبقاً أن بإمكان الحيتان القاتلة أن تتعلم الأصوات التي يصدرها الحوت القاتل عادة من خلال تقليد بعضها البعض.
والآن نحن مهتمون بمعرفة كيف يمكن للحوت القاتل أن يتعلم أصواتاً أكثر غرابة – مثل كلمة "إيمي" – وما الذي يستطيع فعله مع معلومات جديدة كهذه. هل يمكنه أن يربط بين الصوت وشخص ما؟ هل باستطاعته أن يستخدم الصوت لينادي على إيمي نفسها؟ لن يتمكن العلماء من البدء بفهم مدى القدرات الفكرية عند الحيتان القاتلة إلا من خلال توسيع حدود المعارف التي وصلوا إليها.
في الدراسة المتعلقة بويكي، والتي نُشرت في 31 يناير 2018 ضمن الفئة B من دورية وقائع الجمعية الملكية، تحدث الباحثون على وجه التحديد عن حوت قاتل يبلغ من العمر 14 عاماً؛ أنه قادر على تقليد الأصوات. كان الخبراء على علم مسبق بأن الحيتان القاتلة يمكنها تقليد الأصوات والضوضاء، لأنها تمثل الطريقة التي تتعلم بها من بعضها البعض.
وفي هذه الدراسة، كانوا بحاجة ليعرفوا ماذا لو تمكنت الحيتان القاتلة من توسيع مفهوم "التقليد" هذا إلى شيء غير مألوف، مثل تقليد صوت الإنسان. وكانت الإجابة مدوية: "أجل يمكنها". فقد تعلمت ويكي كلمات جديدة على الفور تقريباً، خاصة عندما كانت الأصوات من النوع الذي يسهل إصداره. حيث تمكنت من "لفظ" العديد منها من المحاولة الأولى.
كما أن ويكي ليست الحيوان الوحيد الذي تمكن من فعل ذلك، بل هناك حيوانات أخرى تمكنت أيضاً من تقليد الألفاظ البشرية.
فعلى سبيل المثال، قامت ببغاوات هاربة في فلوريدا بتعليم طيور برية على كيفية لفظ الشتائم التي تعلمت لفظها من مالكيها السابقين من البشر. كما ذكر باحثون بأنهم ظلوا يسمعون شخصاً يغني تحت الماء، ولكن تبيّن لهم أن مصدر الصوت لم يكن سوى الحوت الأبيض (البلوغة) الذي عكفوا على دراسته، مفترضين أنه كان يكرر مقاطع غنائية سبق له سماعها من أشخاص قاموا بغنائها. كما تعلم حوت أبيض آخر كيف يقول "اخرج من الماء"، والذي سبب إرباكاً شديداً عندما كان الغواصون يظنون طوال الوقت أن زملاءهم كانوا يطلبون منهم الصعود إلى سطح الماء.
وبدأ "هوفر"، وهو ذكر فقمة البحر الشهير في بوسطن، بإصدار أصوات وكأن شخصاً مخموراً يصرخ، لأننا نتحدث ببساطة عن بوسطن. فالأمر يعود إلى ثمانينيات القرن الماضي، ويبدو أن الرجال عندما كانوا يثملون من الشراب، يتوجهون إلى الميناء بعد ذلك، ثم يبدأون بالصراخ على حيوانات الفقمة. كان هوفر بمثابة طفل يردد تلك الشتائم التي لم تكن توجه له بشكل مقصود، لقد كان يقلد ما سمعه من البشر فقط.
وهناك الكثير من الحيوانات الأخرى التي لا تقلد أصوات البشر فحسب، بل لديها أيضاً "كلماتها" الخاصة التي تستخدمها لأغراض محددة. فسعادين الفيرفت تستخدم نداءات معينة لتحذر بعضها البعض من الفهود، النمور، الأفاعي أو النسور، حيث يستدعي كل نداء منها استجابة مختلفة للهروب. وتستخدم سناجب الأرض (المرموطاوية) إشارات تحذيرية مشابهة، وينسحب الأمر أيضاً على كلاب المروج وحيوانات السرقاط.
https://youtu.be/KRVxqCo9iW8
كذلك الحال بالنسبة لبعض أنواع الطيور، رغم أن إطلاق مثل هذه الأصوات يختلف عن إطلاق شيء مثل نداء التزاوج. فكلا النوعين يعد وسيلة للتواصل، ولكن نداء التزاوج يعد طريقة جذابة بنفس الطريقة التي نشعر بها تجاه صوت الرجل، أو رائحة المرأة. إنها وسيلة تخص العلاقات الشخصية.
النداء التحذيري يعد وسيلة مرجعية في التواصل، أي أنه يشير إلى شيء يتعلق بالعالم الخارجي (خارج نطاق العلاقة الشخصية) ويوفر معلومات عن ذلك الشيء. أما نداءات التزاوج فهي لا توفر سوى معلومات عن صاحب النداء.
تعتمد هذه المخلوقات جميعها على التواصل من أجل البقاء. في حين تتقدم عليها الحيتان القاتلة والدلافين بخطوة واحدة، أما البشر، فهم متقدمون على تلك الأخيرة بخطوة أخرى. ولكن كل ذلك يبدأ غالباً بعمليات التقليد الأساسية.
أطفال البشر يفعلون ذلك، فأنت تعطي طفلك شاحنة صغيرة وتطلب منه أي يقول كلمة "شاحنة"، وفي نهاية المطاف سيبدأ بترديدها لك. وسرعان ما يرددها لنفسه أثناء اللعب، أو يقول "شاحنة" عندما يطلب الحصول على اللعبة. والدلافين تفعل الأمر نفسه بالضبط.
عندما قدمت ريس للدلافين ما يشبه لوحة من المفاتيح رُسمت عليها رموزٌ مثل "كرة" بحيث يرتبط كل رمز منها بصفير صوتي معين، لم تكن الدلافين بحاجة حتى للتدرب على استخدامها. فقد بدأت بضرب المفاتيح، وعندما ألقى المدربون كرة عند انطلاق الصافرة الخاصة بالمفتاح "كرة"، أدركت الدلافين أن بإمكانها إصدار ذلك الصوت بنفسها لتطلب اللعبة. حتى أنها أخذت تردد صوت الصافرة لنفسها عندما تلعب بالكرة.
تقول ريس إن لوحة المفاتيح "كانت تمثل برنامج روزيتا ستون لتعلم اللغات". فقد كانت بمثابة نافذة صغيرة يمكن للدلافين من خلالها أن تتعلم مصطلحاً جديداً يعبر عن شيء ما، وكيف يمكنها أن تدمج تلك المعرفة في حياتها الخاصة. لقد مكّنت الباحثين من الاطلاع على ما يمكن للدلافين أن تفعله إذا حظيت بالقدرة على التحكم والاختيار. كما أن ذلك يطلعنا بدوره على قدراتها العامة المتعلقة بالتعلم والإدراك.
في نهاية المطاف، البشر قادرون على تعلم استخدام كلمة "كرة" في نطاق أوسع من التراكيب اللغوية. فالكرات تصبح فئة من العناصر التي تملك شكلاً وغرضاً معيناً، فهي ليست مجرد شيء مستدير معين، ويمكننا أن نضيفها إلى كلمات أخرى لتشكيل عدد من الجمل والأفكار. لسنا واثقين من وجود حيوانات أخرى يمكنها القيام بذلك حقاً، ولكن ذلك لا يعني أنها لا تتواصل فيما بينها لمجرد أننا غير قادرين على معرفة ما يدور داخل أدمغتها بعد.
لدى ريس مثال رائع؛ فالدلافين التي درستها تصدر صوتاً معيناً يسميه الباحثون "الصراخ المكتوم"، ودائماً ما تطلقه الآباء والأمهات عندما تحاول تأديب صغارها.
تقول ريس أن بإمكانهم مراقبة التأثيرات السلوكية – فهي أصوات تدعو الدلافين الصغيرة لمشاهدة ما يفعله الكبار أياً كان – ولكن ذلك ليس معناه أن الباحثين يفهمون ما الذي يعنيه هذا الصوت بالنسبة للحيوانات بالفعل. صحيح أنه سلوك يخدم غرضاً مشابهاً لما يحدث عندما يطلب أبٌ من البشر من ولده أن يكف عن العبث، ولكننا لا نعلم إن كانت الدلافين تتصرف بشكل لعوب وأن الآباء يتبعون عملية التكفير نفسها التي نتبعها في مثل هذا النوع من التواصل.
ينطبق الأمر نفسه بشكل أساسي على أي نوع نراقبه من التواصل بين الحيوانات. فمن الواضح أن الحيوانات تتبادل الرسائل فيما بينها، ولكننا غير قادرين على الدخول إلى رؤوسها لنعرف ما هي هذه الرسائل، وكيف يتم استقبالها.
فقد تم تزويد البشر بمجموعة معينة من الأدوات التي تحدد الطريقة التي ننظر بها إلى العالم من حولنا. فلدينا عيون يمكنها أن ترى مجالاً محدداً من الطيف الكهرطيسي، وحبال صوتية يمكنها أن تولد موجات صوتية ضمن مجال محدد من درجات الصوت (وتم ضبط آذاننا لتتمكن من سماعها)، وأدمغة تحول هذه المدخلات إلى كلمات.
تعتمد كل من الكلاب والحيتان القاتلة والدلافين على إشارات مختلفة جداً. فالدلافين والحيتان القاتلة تعتمد على الرصد بمساعدة الصدى (السونار الحيوي)، أما الكلاب فهي تعتمد على الروائح. فكلاً منها يرى العالم بشكل مختلف تماماً عما نراه نحن، ولا يمكننا الافتراض بأن الطرق التي تتواصل بها فيما بينها ستشبه طريقتنا في التواصل في أي من جوانبها. ولكن من خلال تعليمها بعض التراكيب الجزئية من لغتنا الخاصة، يمكننا أن نسد الثغرات التي تتخلل فهمنا للأمر.
نأمل في نهاية المطاف أن تتمكن هذه الحيوانات من تعليمنا بعض العبارات الخاصة بها.