للوهلة الأولى، يبدو الأمر وكأنه فيلم رعب يعود لخمسينيات القرن الماضي: تمكنّت نحو مليون نملة من آكلي اللحوم من الهروب من مخبأ نووي سوفيتي بعد سنواتٍ طويلة من الاختباء. ولكن لا تخف، فقصة هذه الحشرات الطريفة في الواقع قصة كفاحٍ ومثابرةٍ للبقاء على قيد الحياة، والاستمرار في وجه كلّ الصعوبات (والتي يمكن أن تأكل فيها الحشرات أقرانها لتبقى على قيد الحياة أيضاً).
عام 2013 عثر فريقٌ من علماء الأحياء البولنديين بقيادة البروفيسور «فويتش تشيكوفسكي» على عدد هائل من نمل الخشب محتجزاً داخل مخبأ مهجور للذخائر غرب بولندا، كان قد بُني في ستينيات القرن الماضي لتخزين الأسلحة النووية. وبدا أن الحظ العاثر قاد حشرات النمل للسقوط في أنبوب تهوية؛ ووصل عبره إلى غرفة مغلقة لم تستطع الخروج منها، بدون إضاءة أو طعام أو حرارة فيها.
ذُهل العلماء من الاكتشاف، وظلّوا يراقبون سرب النمل المعزول هذا، وقد أدركوا أن النمل لم يكن قادراً على الوصول إلى أنبوب التهوية الموجود في وسط السقف، والتي تؤدي للعودة مجدداً إلى السطح. لكن هل دفع ذلك النمل لليأس؟ لا. شمّروا عن سواعدهم الصغيرة، وبذلوا كل جهد لبناء مجتمعٍ وظيفي. وفي الظلام الدامس، تمكنوا من بناء عشٍّ لها من التراب والبقايا الموجودة في الغرفة، وتمكنوا من الحفاظ عليه وصيانته في مختلف الظروف طوال فصول السنة.
عندما عاد العلماء بعد سنتين إلى نفس المكان ليلقوا نظرةً على العش، وجدوا أنه لا يزال يضج بالحياة مع ما يقارب مليون نملة تعيش داخله. وأدى استمرار تساقط النمل من فتحة التهوية إلى الغرفة المهجورة إلى زيادة أعداد النمل على ما يبدو؛ مع عدم وجود دلائل على أنها تتكاثر بنجاح. لا يزال العلماء يرغبون بمعرفة كيف بقي النمل وبنى مستعمرةً في قبوٍ ليس فيه مصدر غذاء له؟ الجواب باختصار، وفق دراسة نُشرت حديثاً في دورية «Hymenoptera» هو «أكل المثيل - Cannibalism».
يقول «ماك استفان»، مؤلفٌ مشارك في الدراسة وعالمٌ بيئي متخصص بسلوكيات النمل في جامعة زيجيد في المجر: «لم أتفاجأ بما رأيت، لقد كان أكل بعضها بعضاً الخيار المنطقي الوحيد لتبقى على قيد الحياة».
بحلول عام 2016، كانت أرضية الغرفة مغطّاة ببقايا نحو مليوني نملة ميتة. وهذا النوع من النمل، وفقاً لتقاليده، يجمع جثث أفراده في أكوام عملاقة تُسمّى المقابر حيث تتألف من المئات من بقايا النمل الميت. جمع الفريق نحو 150 عينة منها، وحللها بحثاً عن علامات تدلّ على ظاهرة «أكل المثيل»، ووجدوا بالفعل ثقوباً وعلامات تدل على عضّات النمل الأخرى في 93% من العينة المأخوذة.
يوضّح «استيفان» أنّ نمل الخشب عادةً ما يتغذّى على النسيج النباتي والفواكه وعلى الندوات العسلية (التي تفرزها حشرات المن). لكن طريقة تغذيتهم التي اعتمدوا عليها بأكل بعضها البعض وحشية. يقول استيفان: «إنها أشبه بفتح ثقب في مكانٍ ما من الجثّة للوصول إلى العضلات والدهون والأعضاء الموجودة داخلها وأكلها».
ولحسن حظّها، لم تعد تلك الحشرات مضطرةً إلى أكل بعضها بعضاً بعد أن فعلوا ذلك لسنوات طويلة. و أخيراً، ثبت العلماء سلم خشبي طوله ثلاثة أمتار، وتمكن النمل من تسّلقه، والوصول إلى فتحة التهوية في السقف والعودة إلى العشّ الأم. وعندما عاد العلماء في عام 2017، كان الموقع مهجوراً.
إن عادة التخلّص من بقايا الحشرات الميتة جانبٌ مهمٌ للغاية في مجتمع الحشرات. فمثلاً تختار حشراتٌ مثل النمل والدبابير والنحل والنمل الأبيض أفراد منها تتمثل مهمتهم في إيجاد جثث أفرادها لابعادهم عن العش. بالنسبة للنمل الأبيض، فإن ظاهرة «أكل المثيل» هي إحدى الطرق الرئيسية التي تتبعها للتخلّص من بقايا هذه الجثث. بينما تتجنب حشرات النمل والنحل هذه العادة لأسبابٍ صحية كما يقول استيفان: «تتجنب هذه الحشرات نشر الطفيليات والأمراض من خلال التغذية على بقايا أفرادها الأخرى والتي قد تكون ماتت بسببها».
على الرغم من ذلك، فقد يكون اللجوء لظاهرة «أكل المثيل» ضرورياً في الظروف الصعبة (مثل ظروف النمل الذي عاش في المخبأ النووي المهجور). ويمكن أن توفر الجثث العناصر الغذائية الأساسية عندما تكون جميع مصادر الغذاء الأخرى شحيحةً، ويقول استيفان: «تلجأ حشرات خصوصاً نمل الخشب لفعل كلّ ما يلزم للبقاء على قيد الحياة، فهي مشهورةٌ بحروبها الضخمة مع المستعمرات القريبة منها للسيطرة على الأرض. حتى أنها في بعض الأحيان تنقل جثث أعدائها الذين سقطوا في المعركة إلى العش وتتغذّى عليها».
عموماً، توجد ظاهرة «أكل المثيل» في معظم أنواع الحشرات إلى حدّ ما. تقول «إليس ووكر»، عالمة الحشرات في جامعة ليفربول، وغير المشاركة في الدراسة: «وفّر النمل الذي اُكتشف في المخبأ المهجور فرصةً فريدةً لدراسة سلوكٍ جديد لدى النمل. وذلك يوضّح في النهاية مدى قدرة النمل على التكيّف مع البيئات القاسية، وهو أحد الأسباب الذي جعلها هذه الحشرات تنجح في الاستمرار بعد ظهورها منذ 150 مليون سنة».