كان "إدوارد أوسبورن ويلسون" باحثاً استثنائياً بكل معنى الكلمة. في الثمانينيات من القرن الماضي، أخبرني "ميلتون ستيتسون"، رئيس قسم الأحياء في جامعة ديلاوير، أن العالم الذي يقدم مساهمة أساسية واحدة في مجاله يعتبر ناجحاً، وبحلول الوقت الذي قابلت فيه إدوارد أو. ويلسون في عام 1982، كان قد قدم بالفعل 5 مساهمات على الأقل في العلوم.
اكتشف ويلسون، والذي توفي في 26 ديسمبر/كانون الأول 2021 عن عمر يناهز 92 عاماً، الوسائل الكيميائية التي يتواصل بها النمل. لقد تناولت أبحاثه أهمية حجم مواطن الحيوانات الطبيعية ومواقعها في الحفاظ على أعدادها، وكان أول من فهم الأساس التطوري لكل من المجتمعات الحيوانية والإنسانية.
غيرت كل من مساهماته الأساسية بشكل جذري الطريقة التي يتعامل بها العلماء مع هذه التخصصات، وكان يعتبر مثلاً أعلى للعديد من العلماء الشباب مثلي. قد يكون هذا السجل المذهل من الإنجازات ناتجاً عن قدرته الهائلة على تجميع أفكار جديدة معاً باستخدام المعلومات التي اكتشفت في مجالات بحثية مختلفة.
رؤى كبيرة من كائنات صغيرة
جلست في عام 1982 بجوار هذا الرجل العظيم أثناء استراحة في مؤتمر صغير عن الحشرات الاجتماعية. استدار ومد يده وقال: "مرحباً، أنا إد ويلسون. لا أعتقد أننا التقينا من قبل". ثم تحدثنا حتى حان وقت العودة إلى العمل.
بعد 3 ساعات، اقتربت منه مرة أخرى، هذه المرة دون خوف لأنني ظننت أننا أصبحنا أصدقاء. استدار ومد يده وقال: "مرحباً، أنا إد ويلسون. لا أعتقد أننا التقينا من قبل".
نسيني ويلسون، لكنه ظل لطيفاً ومهتماً على أي حال، وأظهر أنه وراء عبقريته كان هناك شخص حقيقي وعطوف. كنت حديث التخرج من المدرسة العليا، وأشك في أن شخصاً آخر في ذلك المؤتمر كان أقل اطلاعاً مني، وهو أمر أثق بأن ويلسون اكتشفه بمجرد أن بدأت الكلام. مع ذلك، لم يتردد في أن يقدم نفسه لي، ليس مرة واحدة بل مرتين.
بعد 32 عاماً، في عام 2014، التقينا مرة أخرى. لقد دُعيت للتحدث في حفل تكريم لفوزه بميدالية "بنجامين فرانكلين" لعلوم الأرض والبيئة من معهد فرانكلين. كرّمت الجائزة إنجازات ويلسون في العلوم، ولكن بشكل خاص، كرمت جهوده العديدة لإنقاذ الحياة على الأرض.
استلهمت عملي في دراسة النباتات والحشرات المحلية، ومدى أهميتها في شبكات الغذاء، من تفسير ويلسون البليغ للتنوع الحيوي والطريقة التي تخلق فيها التفاعلات العديدة بين الأنواع الظروف التي تتيح وجود مثل هذه الأنواع.
قضيت العقود الأولى من مسيرتي المهنية في دراسة تطور سلوك الرعاية الأبوية عند الحشرات، ووفرت لي كتابات ويلسون المبكرة عدداً من الفرضيات القابلة للاختبار التي وجهت بحثي الخاص. لكن كتابه الصادر عام 1992، والذي عنوانه "تنوع الحياة"، كان له صدى عميق في نفسي، وأصبح الأساس لتحول نهائي في مسار حياتي المهنية.
على الرغم من أنني عالم حشرات، إلا أنني لم أدرك أن الحشرات كانت "الأشياء الصغيرة التي تدير العالم" حتى أوضح ويلسون سبب ذلك في عام 1987. مثل معظم العلماء وغير العلماء على حد سواء، كان فهمي للطريقة التي يدعم فيها التنوع الحيوي البشر خاطئاً بشكل محرج. لحسن الحظ، فتح ويلسون أعيننا.
طوال حياته المهنية، رفض ويلسون رفضاً قاطعاً الفكرة التي يتبناها العديد من العلماء، والتي تنص على أن التاريخ الطبيعي (دراسة العالم الطبيعي من خلال الملاحظة بدلاً من التجريب) كان غير مهم. لقد وصف نفسه بفخر بأنه من أنصار مذهب "الطبيعانية"، وبيّن الحاجة الملحة لدراسة العالم الطبيعي والحفاظ عليه. أدرك ويلسون أن رفضنا الاعتراف بمحدودية قدرات الأرض، إلى جانب عدم استدامة النمو الاقتصادي الدائم، قد وضعا البشر في طريقهم نحو الانقراض، وذلك قبل عقود من رواج هذه الفكرة.
أدرك ويلسون أيضاً أن معاملة البشر المتهورة للأنظمة البيئية التي تدعمنا لم تكن مجرد وصفة لانقراضنا، بل إنها تدفع التنوع الحيوي على الأرض إلى الانقراض الجماعي السادس في تاريخه، وأول انقراض يحدث بسبب حيوان: البشر.
نظرة شاملة للحفاظ على الطبيعة
أضاف ويلسون إلى افتتانه الدائم بالنمل شغفاً ثانياً: توجيه البشرية نحو وجود أكثر استدامة. للقيام بذلك، كان يعلم أنه يجب أن يتجاوز الأوساط الأكاديمية ويكتب للجمهور، وأن كتاباً واحداً لن يكون كافياً. يتطلب التعلّم التدريب المتكرر، وهذا ما قدمه ويلسون في كتبه "تنوع الحياة" (The Diversity of Life) و"حب الطبيعة" (Biophilia) و"مستقبل الحياة" (The Future of Life) و"الخلق" (The Creation)، وكتابه الأخير في عام 2016 بعنوان "نصف أرض: صراع كوكبنا للحياة" (Half-Earth: Our Planet’s Fight for Life).
مع تقدم ويلسون في العمر، حل اليأس والإلحاح محل الصوابية السياسية في كتاباته. لقد كشف بجرأة الدمار البيئي الناجم عن الأديان الأصولية والنمو السكاني غير المقيد، وتحدى العقيدة المركزية لعلم الحفظ الحيوي، شارحاً أن الحفظ لا يمكن أن ينجح إذا اقتصر على أقسام صغيرة ومعزولة من مواطن أشكال الحياة.
لخّص ويلسون في كتابه "نصف أرض: صراع كوكبنا للحياة"، المعارف البيئية التي جمعها طيلة حياته في مبدأ واحد بسيط: الحياة كما نعرفها لا يمكن أن تستمر إلا إذا حافظنا على النظم البيئية الفعالة في نصف كوكب الأرض على الأقل.
لكن هل هذا ممكن؟ يستخدم ما يقرب من نصف مساحة سطح الكوكب في شكل من أشكال الزراعة، ويشغل 7.9 مليار شخص وشبكة البنية التحتية الواسعة الخاصة بهم النصف الآخر.
برأيي، فإن الطريقة الوحيدة لتحقيق رغبة ويلسون هي تعلم التعايش مع الطبيعة، في نفس المكان، وفي نفس الوقت. من الضروري القضاء تماماً على فكرة أن البشر منعزلون عن الطبيعة. لقد كان تقديم مخطط لهذا التحول الثقافي الجذري هو هدفي على مدار العشرين عاماً الماضية، ويشرفني أنه ينسجم مع حلم ويلسون.
لا يوجد وقت نضيعه. قال ويلسون ذات مرة: "الحفظ هو مجال بحث له مدى صلاحية". ولا زلنا لا نعرف ما إذا كان البشر يستطيعون إنقاذ الكوكب قبل انتهاء هذه المدة.