كانت سنوات الألفيات وقتاً ممتازاً لدراسة البرمائيات في بنما. ففي الليل، يتناهى إلى سمعك صوت جوقة من الحيوانات المختلفة تغني معاً بينما يدرس العلماء ويصورون الضفدع تلو الآخر، وذلك غالباً في مناطق تبعد بساعات عن أقرب طريق منها. في ذلك الوقت كانت جيمي فويلز وكوري ريكاردس-زاواكي طالبتين حديثتي التخرج، وقد بدأوا للتو مسيرتهم العلمية، وهكذا وجدوا في برمائيات بنما مجالاً واسعاً للدراسة العلمية وإجراء البحوث والتجارب.
كانت هناك ضفادع زجاجية ذات جلد شفاف، وضفادع ليلية بعيون منتفخة، وضفادع شجرية ذات أقدام ضخمة مُكَفَّفة (ذات غشاء بين الأصابع).
"إن المكان الذي كنا نعمل فيه يتمتع بأحد أروع البيئات البرمائية تنوعاً في العالم. فإن تجولت في تلك المنطقة ليلاً سترى عشرات الأنواع الحيوانية المختلفة وتسمع أصواتها، وسترى ذلك وتسمعه كل ليلة، وستجد أن بعض هذه الحيوانات جميل ومذهل فعلاً" تقول ريكاردس-زاواكي.
لكن بعد بضعة سنوات، تغير كل شيء. خفتت أصوات البرمائيات، وأصبح وقعها باهتاً، وبدأت الأنواع الحيوانية التي كانت وفيرة ذات مرة بالاختفاء.
"لم يمضِ وقت طويل بعد عملنا الأولي في بنما حتى ظهر الوباء" تقول فويلز "لقد وجدنا الضفادع الميتة والمحتضرة في مجرى النهر. من الصعب أن أصف وقع هذه التجربة على نفسي ومدى عمقها. لأن ما حدث غيّر بشكل حاسم مسار مهنتنا العلمية. فمن ناحية، كان هذا الحدث صعباً على القلب، ومن ناحية أخرى كان جذاباً لنا من الجانب العلمي، ومن هذا الجانب انطلقنا مجدداً. "
واصل الباحثون والعلماء على مر السنوات دراسة الضفادع والوباء الذي كان يقتلها، آملين أن يكتشفوا ما الذي كان يحدث لهذه الكائنات التي كان عددها يتناقص بسرعة. لكن بعد ذلك وفي الآونة الأخيرة بدأت مجموعة من الأنواع الحيوانية بالتعافي في تلك المواقع الطبيعية، وابتعدت بتمهل عن حافة الفناء والإبادة. وهكذا صممت فويلز وريكاردس-زاواكي وزملائهما على اكتشاف السبب.
أين حدث هذا التغير؟
يأتي وباء الفطور القِدرية (Chytridiomycosis) بسبب الفطريات المسماة باتراشوكتريوم ديندروباتيديس (Batrachochytrium dendrobatidis) التي تزدهر في الأماكن الرطبة مثل أنهار بنما وغاباتها.
اعتقدت فويلز، التي تعمل الآن كعالمة أحياء في جامعة نيفادا، رينو، في بداية الأمر أن السبب في ازدياد أعداد هذه الحيوانات مرة أخرى هو تغير حصل في الفطريات جعلها أضعف وأقل فتكاً.
وتشرح ذلك ريكاردس-زاواكي، التي تعمل الآن في جامعة بيتسبرغ، بقولها أن دورة حياة الكائنات المُمرِضة القصيرة غالباً ما تسمح لها بالتغير أسرع مما تتغير الكائنات المضيفة لها، حيث أن الأولى تتكاثر في غضون ساعات أو أيام بينما تستغرق الضفادع عاماً كاملا لكي تبلغ. ويعني تكاثر الفطريات سريعاً عبر أجيالها أنها أيضاً تتطور بشكل أسرع.
وهكذا بدأت مجموعة العلماء بحثها باختبار كميات صغيرة من الفطريات، وذلك لدراسة التغيرات بين النماذج الجديدة منها وبين تلك التي أُخذت عند بداية تفشي الوباء. مع ذلك لم تكشف النتائج عن أي تغير حصل لهذه الفطريات على مر الزمن. وعندما قام العلماء بتعريض الضفادع لهذا الوباء في المختبر، كان معدل الوفاة صاعقاً بنسبة 100!%
وهكذا عرفنا أن الطبيعة المميتة لهذه الكائنات المُمرِضة لم تتغير قيد أنملة.
تقول فويلز "لقد كنتُ مخطئة تماماً". لكن هذه التجربة لم تذهب هباء، لأنها أخبرتهم أين يبحثون في المرة المقبلة.
وتقول فويلز "وهذا ما دعانا لنستنتج هذه الحقيقة الأساسية، أن الضفادع لا تزال تعيش في بنما ولا تزال مصابة بالوباء، وهذا الوباء لا يزال قاتلاً للبرمائيات أيضاً. إنه لأمر مدهش حقاً"، وتضيف "إذن، وبشكل منطقي استنتجنا أنه ما دام الكائن المُمرِض لم تغير، فلا بد أن شيئاً ما تغير في الضفادع".
كيف نجت هذه الضفادع؟
يستهدف هذا الوباء بشكل أساسي جلود الكائنات والتي تعتبر عضواً حساساً بالنسبة للبرمائيات. لأن البشرة تمثل مدخل المياه والكهارل، بل أن بعض البرمائيات تتنفس من جلودها. لذلك تعتبر العناية بالبشرة بالنسبة للبرمائيات مسألة حياة أو موت؛ وليست مسألة جمالية وحسب!
"سجلنا اضطراباً في المخطط الكهربائي للقلب، وكانت الضفادع تموت بسبب توقف انقباضات القلب" تقول فويلز. ويعتبر هذا نوعاً من السكتات القلبية الناجمة عن خلل في التوازن الكيميائي. لا تتيح البشرة المضطربة كيميائياً للكائن أن يُبقي مكونات حيوية مثل الصوديوم والبوتاسيوم بحصص مناسبة في جسمه، وهكذا يتوقف القلب عن النبض.
إذاً، كيف استطاعت الضفادع التغلب على هذه الفطريات المميتة؟ بحث العلماء عن ذلك ووجدوا أن الضفادع السليمة غيّرت إفرازات جلودها لتصبح أكثر مقاومة للبكتريا، وذات قدرة أكبر على محاربة الفطريات. وقد نشروا دراستهم في عدد هذا الأسبوع من مجلة ساينس.
درب طويل للتعافي بشكل كامل
لا زالت جهود الحفاظ على الأماكن الطبيعية للضفادع في بنما مستمرة، فيما يواصل العلماء العمل على إنقاذ هذه الكائنات من خطر الانقراض.
"إن التعافي ممكن، لكنه سيكون بطيئاً وتدريجياً" تقول فويلز. "وهذا يعني أنه ينبغي علينا أن نستمر بالرصد العلمي وجمع النماذج وبذل الجهد الكبير الذي يتطلبه إيجاد هذه البرمائيات واكتشاف ما الذي حصل معها".
لكن يبدو أن الإفرازات الجلدية ليست العامل الوحيد الذي منح بعض هذه الضفادع القدرة على المقاومة. لذلك يريد العلماء والعالمات مثل فويلز وريكاردس-زاواكي أن يعرفوا المزيد عن جينات هذه الكائنات المضيفة، حيث من الممكن أنها تغيرت، ويريدون كذلك معرفة لماذا لم يتغير الكائن المُمرِض بحد ذاته.
وعموماً، يعتبر هذا أحد النقاط المضيئة في ليل الوباء المريع الذي أصاب هذه الضفادع، والعلماء الذين درسوها، والأشخاص الذين يعيشون بقربها. مع ذلك لا يعني وجود نقطة مضيئة قدوم أيام مشمسة منيرة لجميع أنواع الضفادع.
"لقد تأكدنا علمياً بأن بعض الأنواع أبدت بالفعل أولى علامات التعافي من الوباء، لكن هذا لا يعني أبداً أن جميع الأنواع ستنجح في ذلك" تقول ريكاردس-زاواكي. "يبدو أن العديد من الضفادع لا زالت معرضة لمخاطر هذا الوباء. أما إن كانوا سيتعافون وينجون منه أو لا، فذلك ما نوده حقاً. الأمر المؤكد هو أنها حتى لو تعافت فلن تعود كما كانت من قبل أبداً. وسيستمر هذا الوباء بتهديد هذه الكائنات البرمائية في بنما وفي المناطق الأخرى من العالم".
وتؤكد كل من العالمتين ريكاردس-زاواكي وفويلز على أهمية الرصد العلمي المستمر والمستدام وتتبع هذا الوباء والآثار التي يحدثها على الضفادع. وبهذا الصدد تعد مثل هذه الإجراءات المحسنة لعملية رصد الأوبئة، ومراقبة تغيرات التفاعلات بين الكائنات المُمرِضة والمضيفة للوباء، عاملاً مساعداً لتعزيز جهودنا في تتبع الأوبئة المستقبلية، ليس فقط لدى البرمائيات بل حتى للنباتات والحيوانات الأخرى.
وتختم فويلز كلامها: "لن تتوقف الأوبئة المعدية الجديدة عن الظهور والتفشي. ومع تزايد العولمة، ستظل الأوبئة المعدية مصدر خطر وتهديد، ليس على الحيوانات البرية فقط، بل على البشر كذلك".