وفقاً لقياسات التأريخ الإشعاعي، يُقدر عمر الأرض بنحو 4.5 مليار سنة. ووفقاً لآخر الأدلة العلمية المتفق عليها، ظهرت الحياة على سطح الأرض منذ 3.7 مليار سنة، أي بعد نحو مليار سنة من تكون الأرض. طوال كل هذه الفترة تقريباً، كانت معظم أشكال الحياة على سطح الأرض من الكائنات البسيطة مثل البكتيريا. على سبيل المثال، لم تظهر النباتات البرية المعقدة إلا منذ نحو 850 مليون سنة. وفقط، منذ نحو 541 مليون سنة، حدث تنوع كبير في أشكال الحياة في باطن المحيطات على الأرض يُطلق عليه العلماء مصطلح "الانفجار الكامبري". تلك هي الحقبة التي ظهرت فيها أشكال الحياة الحيوانية المعقدة التي نألفها الآن.
رصد علماء الجيولوجيا والحفريات ذلك الانفجار أو التنوع الكبير مع الظهور المفاجئ لحفريات معقدة، مثل المفصليات ثلاثية الفصوص (trilobites)، في الطبقات القديمة من الصخور. بدا ذلك التحول السريع والمفاجئ صادماً ومحيراً حتى أنه أقلق وحيّر تشارلز داروين نفسه.
لكننا بتنا نعرف الآن أنه لم يكن على تلك الدرجة من السرعة والفجائية، وإنما حدث في مراحل متمايزة امتدت لما يزيد على 30 مليون سنة. وهو ما دفع عالم الجيولوجيا الكبير "بريستون كلاود" إلى أن يطلق عليه اسم "الثوران الكامبري"، مستعيراً صورة الثوران المتراكم الذي يحدث داخل البركان طوال الوقت ثم ظهوره كحدث فجائي عند ظهوره على السطح.
خلّفت تلك الحقبة وراءها قدراً كبيراً من المراسب والحفريات المدهشة، التي لا يزال العلماء في حيرة من أمرها، والتي لا تحتوي فحسب على هياكل عظمية صلبة وإنما على أنسجة لينة ورقيقة أيضاً، لتعطي بذلك صورة أوضح كثيراً عن مجمل أشكال الحياة في حينها عمّا توفره البقايا المتناثرة من العظام والأصداف. لفترة طويلة، كان المرسب الأشهر لهذه الحقبة هو "طَفل بورغيس"، أعلى جبل ستيفن في كولومبيا البريطانية بكندا، والذي حفر فيه العلماء منذ أكثر من قرن بحثاً عن الحفريات الرائعة المختبأة في صخوره. ومنذ ثلاثة عقود، انضمت إليه منطقة مراسب "شينجيانغ" بالصين.
من هذين الموقعين، استطاع العلماء تكوين صورة تفصيلية للمراحل الأولية من ظهور الحياة الحيوانية داخل المحيطات (في ذلك الوقت، كانت معظم المناطق البرية على سطح الأرض قاحلة). فقد استخرجوا منهما الكثير من حفريات مفصليات الأرجل وعضديات الأرجل والديدان والإسفنجيات والحبليات، وحتى بعض أنواع الحيوانات الغريبة التي لا يعرف العلماء كيف يصنفونها ضمن الفصائل الحيوانية الحالية.
والآن، ظهر مرسب كامبري آخر في الصين في منطقة "كينجيانغ" بإقليم هوباي. يعود تاريخ المرسب الجديد إلى نفس تاريخ مرسب شينجيانغ تقريباً، وهو نحو 518 مليون سنة، أي إلى أوائل الفترة الكامبرية تقريباً. تشير النتائج الأولية التي نُشرت منذ أيام في دورية "ساينس" إلى أن المرسب الجديد قد ينافس مرسبي طَفل بورغيس وشينجيانغ. فقد تكون في نفس الامتداد العام للرف الصخري القاري للمحيط عند منطقة شينجيانغ، على بعد 1000 كم تقريباً، ونوعاً ما في مستوى أعمق من المياه على ما يبدو. المثير بشأن هذا المرسب الجديد هو أنه لا يحتوي فحسب على حفريات رائعة، وإنما يُمثل أيضاً تجمعات حيوانية مختلفة عما سبق اكتشافه. وهو ما يوضح أن المحيط في العصر الكامبري كانت به حياة أكثر تنوعاً مما ظننا من قبل، حتى في تلك الأيام الأولى!
لا تقتصر الحفريات التي تم استخراجها من مرسب كينجيانغ الجديد على العديد من الديدان ومفصليات الأرجل والإسفنجيات فقط، بل تحتوي أيضاً على الكثير من الحيوانات ذات الأنسجة الرقيقة والشفافة للغاية، مثل قناديل البحر، محفوظة بأفواهها وأهدابها، وكذلك تحتوي على بعض أقربائها البعيدين من المشطيات. هذه الحيوانات نادرة في طَفل بورغيس ومرسب شينجيانغ، أما في حفريات كينجيانغ فهناك أمثلة كثيرة منها محفوظة على السطح الطفلي بكل التفاصيل الدقيقة لتلك الحيوانات ذات التراكيب التشريحية الهشة للغاية.
تظهر في طبقات مرسب كينجيانغ حيوانات أخرى غريبة ورائعة، وتمثل اتجاهات لافتة للنظر وربما عميقة في مسار التطور. على سبيل المثال، توجد "شوكيات الرقبة"، وهي حيوانات غامضة اليوم لأنها جزء من "كائنات القاع"، أو تلك الكائنات ضئيلة الحجم التي تعيش بين حبات الرمال عند قاع المحيط.
في هذا المرسب، وجد العلماء ثلاثة أشكال أحفورية جديدة، بلغ طول بعضها 4 سنتيمترات تقريباً، في حين لم يتخط طول الحفريات المعاصرة منها بضعة ملليمترات قبل ذلك. ترجح هذه الحفريات الكامبرية الضخمة نسبياً أن كائنات القاع التي نراها اليوم ظهرت في البداية بأحجام "طبيعية" ثم تضاءلت وبقيت على هذا الحال.
إنه مرسب غني بالحفريات حقاً. لكن كيف تَكوّن؟ يقترح العلماء نفس التفسير المقترح لتكون طَفل بورغيس ومرسب شينجيانغ، وهو عملية حفظ سريع علقت فيها تلك الحيوانات في عجائن طينية حملتها إلى أجزاء عميقة وشحيحة الأوكسجين من قاع المحيط ثم دُفنت سريعاً في ذلك الطين الخانق. يبدو هذا التفسير مقنعاً، لكن تلك الظروف والعمليات استمرت في الحدوث لفترة طويلة بعد العصر الكامبري، ومع ذلك، فنادراً ما تم الربط بينها وبين اكتشافات أحفورية بهذا الثراء. ثمة أمور كثيرة لا تزال غامضة بشأن المراحل الأولى للحياة كما نعرفها، لكن تلك الألغاز ستتكشف شيئاً فشيئاً مع مواصلة العلماء لدراسة الحفريات المكتشفة في مرسب كينجيانغ.
هذا المقال محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.