حرارة جسدك، وعبق عرقك ونسيم أنفاسك، ورائحتك، آه! رائحتك... كل هذا ممتزجاً يثير البعوضة جداً ويجذبها إليك مع أمنية الاستمتاع بوجبة سريعة من دمك.
[ضربة عنيفة]
ليست هذه المرة أيتها البعوضة! ليست هذه المرة.
إن الاهتزازات القوية للضربة كافية لجعل البعوضة تنتبه من إغراء رائحتك، حتى وإن لم تنجح ضربتك في سحقها وجعلها كرة دموية صغيرة.
ولكي يختبر العلماء إلى أي مدى تستطيع هذه الحشرات المزعجة تذكر تجربة عنيفة -والرائحة المرتبطة بها- أدخلوا هذه الحشرات في اختبارات تتضمن محاكيات طيران صغيرة، وأنفاق رياح مصغّرة وروائح للبشر والفئران والدجاج. ووجدت نتائج هذه الاختبارات، التي نشرت في عدد هذا الأسبوع من مجلة كارنت بايولوجي، أن البعوض قادر على تذكر الأشخاص الدفاعيين لمدة يوم على الأقل، ومن ثم كانت حشرات البعوض تتجنبهم كالطاعون (أو في حالة البعوض، تتجنبهم مثل الديت، المركب الكيميائي الفعال في طرد الحشرات).
درس هؤلاء العلماء نوع البعوض المسمى علمياً ايديس ايجبتي ايجبتي (Aedes aegypti aegypti) وهو نوع تطوّر خصيصاً للتغذي على البشر. هذا النوع يعشق فعلاً التغذي على البشر.
"لقد تطورت أنواع البعوض لتتمكن من التعرف علينا وتخزنا. وهي حساسة جداً لدرجات الحرارة، ولبخار الماء الذي يصدره عرقنا، ولرائحة أجسادنا، ولثاني أكسيد الكربون المنبعث من تنفسنا، وهكذا نجد أن أنظمتها الحسية بأكملها معدة خصيصاً لإيجادنا" يقول جيفري ريفيل المؤلف الرئيسي لهذا البحث العلمي.
وإذا لم تجد هذه الحشرات غذائها المفضل، ستتدبر أمرها بالتغذي على دماء الماشية أو الكلاب للبقاء على قيد الحياة. لكنها لا تفعل ذلك إلا إذا اضطرت له. ويقول ريفيل أن الباحثين وجدوا في تجارب أخرى أنه حتى ذلك البعوض الذي وُضع في بيئة تقتصر فقط على الكلاب أو الماشية طيلة حياة البعوض البالغ من شأنه أن ينجذب مرة أخرى للبشر إن أتيحت له الفرصة.
"إن قدرة البعوض على تبديل المضيفين (من يتغذون عليهم) لم تؤثر على تفضيلهم الفطريّ للبشر. ولذلك نعتقد كعلماء أن التعلم هو ما يسبب هذا التبديل وهذه المرونة" يضيف ريفيل. يريد ريفيل وزملاؤه أن يدرسوا ما الذي يكمن وراء تفضيلات البعوض للمضيفين، وما إذا كان البعوض يتعلم تجنب بعض البشر الذين لم يسمحوا للبعوض بوخزهم.
يقول ريفيل: "كل إنسان له رائحة فريدة مميزة؛ بصمة إن جاز التعبير". ويضيف "وهذه البصمة ثابتة، فهي لا تتغير كثيراً على مر الأسابيع والشهور. والبعوض عندما يخزك فعلاً ويمتص دمك فهو يشمّك أيضاً. وإذا حرّكت ذراعك محاولاً ابعادها أو حاولت سحقها فإن البعوضة ستحس بالاهتزازات الناجمة عن حركتك وتدرك وجود علاقة سلبية بين تلك الاهتزازات ورائحتك. ونظراً لأن لكل واحد منا رائحته الخاصة، اكتشفنا أن البعوض يستطيع بالفعل تذكر بعض الأفراد"
بعبارة أخرى، تتعلم هذه الحشرات تجنب إغراء رائحة بشريّ يحاول سحقها. وضع العلماء نموذج إنسان منزعج في تجربة وهو يرتدي جوارب نايلون رقيقة ارتداها من قبل طلبة جامعيون لجعلها تكتسب رائحة مغرية وعبقة (بالنسبة للبعوض طبعاً، لأن رائحتها كانت خفيفة جداً للأنف البشري).
يقول ريفيل "إن المثير للاهتمام في هذه التجربة هو أن الأفراد الذين تذكرهم البعوض أكثر كانوا الأفراد الأكثر إغراء بالنسبة للبعوض".
بطبيعة الحال لم يكن ريفيل يتحدث عن الجاذبية كما نعرفها نحن البشر. قد تتذكر الآن أصدقاء كانوا يتحدثون باستمرار عن جاذبية البعوض لهم قائلين "آه البعوض يحبنيّ جداً" أثناء أشهر السنة التي ينشط فيها البعوض. من المحتمل أنهم محقين فعلاً.
يقول ريفيل عن هذا الأمر أن البعوض يتفاعل بشدة مع الروائح التي سبق له وأن انجذب لها. وهذا منطقي فعلاً إن فكرت ملياً. ماذا لو كنت تحب الكعك، وأثناء همّك بقضم جزء كبير من الشوكولا اللامعة عليه، تحاول الكعكة فجأة طعنك حتى الموت؟
الآن تصوّر أن يحاول طعام آخر فعل نفس الشيء معك. لنقل مثلاً نبات الكرفس. ماذا لو حاول الكرفس أن يسحقك بينما تحاول جاهداً أن تتناوله كونك تريد طعاماً صحياً؟ هناك فرق صح؟ إن خيانة الكعك تبدو أشد وقعاً عليك لأنك تحب الكعك حقاً، في حين لطالما كنت تتوقع من الكرفس أن يطعنك في الظهر!
إن البعوض يحس بألمك.
يقول ريفيل: "يتجنب البعوض بعض الروائح بنفس الشدة التي يتجنب بها طارداً حشرياً يحتوي على 40 % من الديت" ويضيف "يستطيع البعوض بالفعل تذكر الروائح وتتسبب بعضها في طرده بعيداً".
اكتشف ريفيل وزملائه هذه المعلومات بإلصاق حشرات بعوض حية بدبوس حشرات رقيق يعمل مثل حبل يشد البعوض ويبقيه في مكانه مع إمكانية طيران البعوضة نحو الروائح أو بعيداً عنها. "يشبه الأمر الواقع الافتراضي بالنسبة للبعوض. إنها طريقة رائعة لاختبار سلوكيات البعوض ومعرفة ما الذي يتعلمه" يقول ريفيل.وفي هذه الحلبة المحاكية للطيران يتلقى البعوض نفحات من روائح معينة -مثل الروائح التي جمعت من المتطوعين سابقاً- وفي ذات الوقت تتعرض لاهتزازات ودفق من الهواء المضطرب لمحاكاة محاولة السحق التي يفعلها البشر عادة.
"ثم أننا نجعل البعوض يطير في هذه الأنفاق الهوائية الصغيرة وهناك يكون لديهم الخيار بين الرائحة السابقة ورائحة أخرى جديدة، بحيث يستطيعون الذهاب في الاتجاه الذي يرغبون فيه"
وفي هذه التجربة ساعدت برامج الحاسوب والكاميرات في تحليل كيفية طيران البعوض نحو الروائح أو بعيداً عنها أثناء تحررها من الدبوس.
ثم أخذ العلماء البعوض لخطوة أبعد من ذلك. "يمكننا إلصاقهم بحامل يثبّتهم لكنه يسمح لهم بالطيران، من ثم نقطع جزءاً صغيراً من رؤوسها ونسجل كيف تتغير الخلايا العصبية في نظامها الشمي أثناء تعلمها. نستطيع أيضاً أن نرى كيف تؤثر بعض المواد الكيميائية الخاصة بالذاكرة والتعلم على معالجة المعلومات الشمية" يقول ريفيل.
ووجد الباحثون في دماغ البعوض أن مادة الدوبامين مهمة جداً في قابلية الحشرة على التعلم حيث يحفزها الدوبامين على تذكر الارتباطات السلبية والإيجابية مثل التعرض لهجوم من قِبل طعامها.
لا يزال الباحثون يجرون التجارب للتوسع في هذه الدراسة ويعملون حالياً على اكتشاف المادة المحددة من بين 300 مركب أو نحوه تشكل رائحة الإنسان وتغري البعوض بشكل خاص. كما أنهم يحاولون أيضاً معرفة ما إذا كانت تجربة النجاة من إنسان يحاول سحق البعوضة قابلة للانتقال من بعوضة لأخرى أم لا، ومدى طول الفترة الزمنية التي تبقى فيها البعوضة متذكرة لتجربة سيئة؟ اختبرت دراسة ريفيل وزملاؤه تذكر البعوض للروائح بعد فترة 24 ساعة فقط لكن البعوض يعيش لمدة شهر تقريباً. لذلك من الممكن أن البعوض يتعلم من تجاربه لفترة أطول بكثير من يوم واحد فقط.
ويقول ريفيل "عموماً ما وجدناه حتى الآن هو أن البعوض تطور ليكون حشرات فعالة جداً في وخز البشر ونقل الأمراض". ويضيف "إن قابلية تعلمها تجعل تكيفها أكثر فعالية في الالتصاق بالبشر ووخزهم. لذلك لن يكون القضاء على هذه الحشرات سهلاً أبداً".
لا توجد طريقة مثالية لسحق بعوضة أو محاولة سحقها وجعل بقية رفاقها بعيدين عنك للأبد، مع ذلك يأمل العلماء أنه من خلال فهم كيف تختار البعوض من تخزه، فقد يستطيعون حرمانها مستقبلاً من وجباتها الدموية. أما في الوقت الحالي فحتى لو تعلمت بعوضة أن تتجنبك فمن المحتمل أن تنتقل لصديقك أو لحيوانك الأليف كوجبة بديلة.
لذلك وأنتَ تخوضُ حروبكَ لإبعاد البعوضة، فكِّر بغيركَ: لا تدعها تفلت منك!