في أواخر العقد الأول من هذا القرن، أمسك عالم الفطريات ماتيو غاربيلوتو بحبل بينما كان يتدلى على منحدر شديد الانحدار مغطى بالأعشاب الاستوائية الرطبة. كان من الصعب اجتياز التضاريس، لكنه وضع نصب عينيه الوصول إلى جائزةٍ صغيرة موجودة في حافةٍ بعيدة.
يقول غاربيلوتو في بيان صحفي صادر عن جامعة كاليفورنيا بيركلي، حيث يشغل منصب مدير مختبر علم أمراض الغابات والفطريات: «أتذكر أنني تعلقت بحبل ووصلت يدي فوق الصدع لأجمع فطراً كان ينمو على حافة صغيرة حيث كان من المستحيل السير». كان هذا الفطر بعيد المنال مجرد واحد من مئات الفطريات التي التقطها غاربيلوتو وباحثو جامعة كاليفورنيا بيركلي من النباتات والأشجار والتربة من مختلف أنحاء جزيرة موريا التي تقع في بولينيزيا الفرنسية في جنوب المحيط الهادئ.
جزيرة موريا: كنز دفين للعلماء
يصف غاربيلوتو جزيرة موريا بأنها "كنزٌ دفين" من التنوع البيولوجي الفطري. وقال في البيان إن المسح «هو أحد المحاولات الأولى للحصول على معلومات أساسية عن التنوع الفطري، ليس في موريا وحسب، ولكن لمنطقة أوقيانوسيا الشاسعة بأكملها». تتميز مجموعات الفطريات المتنوعة المنتشرة في جميع أنحاء الجزيرة بمجموعة متنوعة من الألوان الزاهية والأشكال الفريدة، من فطر «غطاء الحبر» (Inkcap) ذو الشكل المظلي إلى الفطريات الخيشومية الكهربائية الصفراء وحتى فطر «عش الطائر» ذو الشكل المخروطي.
في ورقة بحثية نُشرت في دورية «بيوجيوغرافي» (Biogeography) في 31 مارس/آذار، وصّف علماء جامعة كاليفورنيا في بيركلي أكثر من 550 عينة من الفطريات الكبيرة، وهي فطريات لها أجسام ثمرية ظاهرة. تحتوي المجموعة على 205 نوعاً شكلياً، أي أنواعاً تصنيفية تتميز في المقام الأول بالشكل المميز والاختلافات البنيوية. تعتبر النتائج جزءاً من مشروعٍ أكبر يُطلق عليه مشروع «موريا بيوكود» (Mo’orea Biocode)، والذي يصنف تنوع الحيوانات والنباتات والكائنات غير الميكروبية الأخرى في الموائل البحرية والبرية بالجزيرة بين عامي 2007 و2010.
خليط من المناطق المأهولة والبكر
تقع جزيرة موريا ضمن أرخبيل جزر الجمعية (Society Islands)، وهي جزيرة بركانية يبلغ عمرها نحو 2.15 إلى 1.36 مليون سنة، ولكنها في الواقع تكوين حديث من الناحية الجيولوجية. لم يكن الأرخبيل متصلاً أبداً بأكمله بأرض قارية، لكن البولينيزيين سكنوا المنطقة منذ نحو 3000 عام، حيث لم تشهد المنطقة نشاطاً تجارياً أو سياحياً إلا مؤخراً. يوضح غاربيلوتو أن طبيعة موريا المختلطة المكونة من الموائل البكر والمناطق المأهولة التي غيرها البشر كثيراً يجعلها مكاناً فريداً لتتبع مستعمرات الفطور.
ويكتب غاربيلوتو إلى بوبيولار ساينس في رسالةٍ بالبريد الإلكتروني: «قد تحمل موريا حقاً مفتاح فهم التطور الفطري بسبب بعدها ومدى تنوع الغطاء النباتي فيها. الجزر الأخرى إما قريبة جداً من كتلة اليابسة القارية أو أن نباتاتها متجانسة جداً بحيث لا توفر نفس القرائن على التطور الفطري بشكل عام».
نظراً لأن الفطريات تنتشر بواسطة أبواغٍ مجهرية، فمن المحتمل أن يكون لها أنماط جغرافية محددة عبر الموئل. غالباً ما يرتبط انتشارها أيضاً بالمضيفين، مثل بعض الحيوانات أو النباتات، بالإضافة للقوى الجيولوجية، مثل الرياح أو التيارات المائية أو المناخ. ونظراً لأن نمو الفطريات يعتمد على محيطها والكائنات الحية الأخرى، فهي مؤشر جيد لفهم العلاقات البيئية في الجزيرة. يذكر مؤلفو الدراسة أن أنماط التوزيع لها آثار مهمة على الحفظ وتقييم التنوع البيولوجي.
أهمية دراسة الفطريات في معرفة النظم الحيوية
يقول المؤلف الرئيسي للدراسة، تود أوسموندسون، في بيان صحفي: « الفطريات هي حقاً أجزاء مهمة من النظم البيئية». كان أوسموندسون باحثاً سابقاً في جامعة كاليفورنيا في بيركلي ويعمل حالياً أستاذاً في علم الأحياء بجامعة ويسكونسن لاكروس. يضيف قائلاً: «إنها تعمل كمحللات أولية، وفي بعض الحالات كعوامل ممرضة تفكك المواد العضوية المتحللة وتعيد تدوير العناصر الغذائية إلى أشكال يمكن أن تستخدمها الكائنات الحية الأخرى. وهي مهمة أيضاً ككائنات متعايشة، إذ أنها تعيش مع كائناتٍ أخرى وتستفيد منها مقابل المنفعة المتبادلة. على سبيل المثال، تلتصق بعض الفطريات بجذور النباتات وتتبادل المغذيات معها».
خلال فترة جمع العينات بين عامي 2008 و2009، كان فريق البحث ينطلق عند الفجر ويواصل البحث حتى بدايات فترة ما بعد الظهر في أجواءٍ من الرطوبة والحرارة. لقد بحثوا عن الفطور في جميع أنحاء الجزيرة، يستكشفون يوماً جزيرة صغيرة قبالة الشاطئ في الشعاب المرجانية وفي اليوم التالي كانوا يتسلقون الجبال التي يبلغ ارتفاعها نحو 3 آلاف قدم. ساروا تحت أشجار النخيل ومشوا عبر غابات المانجروف، وعملوا جنباً إلى جنب مع البولينيزيين المحليين للتعرف على الاستخدامات المحلية للفطر وبعض الأنواع التي تزرع في المزارع والممتلكات الخاصة.
يقول غاربيلوتو: «تنوع الموائل في منطقة صغيرة مذهل حقاً. بعد فترة من الوقت، أصبحنا نعرف موقعنا بمجرد النظر إلى الفطريات، كان لكل موطن مجموعة فريدة جداً من الفطريات».
بعد جمع العينات، كان الفريق يقوم بتصويرها وتجفيفها لتخزينها مرة أخرى في معشبة جامعة كاليفورنيا في بيركلي. في المختبر، يقوم الفريق بتحليل تسلسل الحمض النووي لقياس التنوع، وفحص مستوى التوطّن، أو العينات المحلية، ومعرفة كيفية انتشار الفطريات في جميع أنحاء الجزيرة. ساعدت مقارنة تسلسل الفطريات في موريا مع الأنواع الأخرى حول العالم الفريق في معرفة من أين أتت الأنواع في الأصل.
وأوضح غاربيلوتو في رسالة البريد الإلكتروني: «لقد فوجئت حقاً عندما قارنا تسلسلات الحمض النووي للفطريات في موريا ووجدنا أن عدداً قليلاً جداً من التسلسلات تتطابق تماماً مع تلك الموجودة في الفطريات في أي مكان في العالم. هذا مؤشر على أن معظم عيناتنا هي فطورٌ غير موصّفة».
ويقول إن أكثر من 100 من الأصناف الممثلة في المجموعة قد تكون من الأنواع الجديدة، ويضيف بأن عدد العينات الصغير الذي تتشابه فيه تسلسلات الحمض النووي مع الأنواع المعروفة يشير إلى أنها ربما تكون مجموعاتٌ أو سلالاتٌ متميزة وراثياً. على الرغم من أن معظم الفطريات يبدو أن لها روابط أسلاف بجزر جنوب المحيط الهادئ أو أستراليا المجاورة، ربما نشأ عدد صغير منها من أماكن بعيدة في أميركا الجنوبية وشرق آسيا وأوروبا.
يقول غاربيلوتو: «يشير هذا إلى أن الانتقال لمسافاتٍ هائلة ممكن. في الحقيقة، لهجرة البشر والنشاط التجاري آثار بعيدة المدى على التنوع البيولوجي، وقد تؤثر على المسارات التطورية».