منذ أكثر من سنة، ومع انتشار جائحة كورونا حول العالم، أصبحت عبارة «التباعد الاجتماعي» جزءاً من الأحاديث الشائعة، ولكن كممارسة، فالتباعد الاجتماعي كان موجوداً منذ زمن أطول، وليس فقط عند البشر.
نُشرت ورقة مراجعة بحثية في دورية «ساينس» في 5 مارس/ آذار الجاري، تستعرض الأبحاث العلمية، بهدف اكتشاف الطرق التي يمكن أن يغيّر فيها انتشار الأمراض السلوكيات الاجتماعية؛ وذلك عند البشر وأنواع أخرى من الحيوانات.
يقول «سيباستيان ستوكماير»؛ المؤلف الرئيسي للورقة الجديدة، ومرشّح لنيل شهادة الدكتوراه في علم الأحياء التكاملي في جامعة تكساس في مدينة أوستن: «طوّرت الحيوانات آليّات سلوكية معقّدةً ومثيرةً للاهتمام للتعامل مع العوامل المُمرضة».
تعاونَ ستوكماير؛ الذي يدرس سلوكيات المرض عند الخفافيش مصاصة الدماء، مع مجموعة من علماء الأوبئة وعلماء الأحياء التطوريين والخبراء الآخرين، لتأليف ورقة المراجعة، ووفقاً للمؤلفين، فإن فحص هذه الديناميكيات الاجتماعية يمكن أن يساعدنا في فهم عمليات مهمّة للغاية؛ مثل طرق انتشار الأمراض وتطوّر الفيروسات، والدراسات الحيوانية تساعدنا في اكتشاف المعلومات التي تكمّل فهمنا.
أما «باتريشا لوبس»؛ أستاذ مساعد في جامعة تشابمن تدرس سلوك الحيوان، وغير المشاركة في الدراسة، كتبت في رسالة إلكترونية لنا: «دراسة طرق انتشار الأمراض المعدية أمر معقد للغاية»، وأضافت: «ما تبيّنه هذه الورقة هي الطرق العديدة التي يمكن أن يتغير فيها سلوك الأفراد المصابين أو الأفراد الأصحاء المحاطين بأفراد مصابين، وكيفية الكشف عن هذه التغيّرات عند أنواع عديدة من الحيوانات». وفقاً للوبس، فإن السلوك «هو عامل حاسم في تحديد أو التنبّؤ بطرق انتشار الأمراض بدقّة».
تصرف الحيوانات في وجود مرض معدٍ.
داخل عالم الحشرات
اعتماداً على الأبحاث حول حياة الحشرات ذات المجتمعات العليا بشكلٍ خاص؛ مثل النمل والنحل، نظر الباحثون في 6 طرق مختلفة يمكن لأي مرض معدٍ أن يغيّر التفاعلات الاجتماعية بينهم. وفقاً لستوكماير؛ فإن تجنّب العوامل الممرضة أمر شائع عند مختلف أصناف الحيوانات، وهو سلوك يتمثّل في قدرة الحيوانات على ملاحظة أن فرداً ما قد يكون مريضاً، والمحافظة على مسافة أمان لتجنّب الإصابة بالمرض؛ مثل عندما يعطس أحد ما بجانبك، وتتجنّبه غريزياً. حيوانات الكركند تمارس تجنّب العوامل الممرضة، وكذلك يفعل النمل الأبيض وأسماك الجوبي الترينيداديّة.
يقول ستوكماير: «ملاحظة العدوى عند فرد آخر، وبالتالي القدرة على تجنّب الإصابة، هو سلوك مفيد للغاية».
نظر الفريق أيضاً في بعض الطرق التي يمارس فيها أفراد الحيوانات العزل الذاتيّ؛ إما بشكل عفوي (لأنهم يشعرون بشعور سيئ ولا يستطيعون إنجاز النشاطات اليومية)، أو بشكلٍ متعمّد بهدف حماية الجماعة (كما يفعل النمل والنحل). نظر الباحثون أيضاً في سلوكيات مثل «الاستبعاد»؛ والتي تتمثّل في حجر إنسان مصاب أو معرّض للإصابة، أو وفقاً لستكوماير، في حالات متطرّفة عند نحل العسل، عندما «تُطرد الأفراد المصابة من العش».
بالإضافة لذلك، راجع الفريق سلوكيات مثل الاهتمام (المنتشر بشكلٍ أساسي عند البشر والحشرات الاجتماعية)، والتباعد الاجتماعي الاستباقي؛ والذي أصبحنا نألفه حالياً؛ وهو يتمثّل في تجنّب المخالطة حتّى عند غياب المرض بهدف تقليل احتمال انتقال العوامل الممرضة.
يوضّح ستوكماير: «ظهر أمر مشابه للغاية مؤخراً عند النمل الأسود الشائع؛ الذي يتبّع سلوكاً مثيراً للاهتمام للغاية»، ويضيف: «إذا أدخلنا أفراداً عليهم أبواغ فطرية إلى أحد الأعشاش، ما سيحدث هو أن أفراد العش غير المصابين سيبتعدون أيضاً عن بعضهم».
بالنسبة للبشر؛ يبيّن مؤلفو الورقة أن هذه السلوكيات يمكن أن تكون متفاوتةً بشكلٍ خاص. على سبيل المثال، الشخص المريض قد يذهب إلى العمل إذا كان يعمل ضمن نظام لا يقدّم الإجازات المرضية المدفوعة، أو لا يحث الموظّفين على منح أولوية للصحة مقابل الإنتاجية. وفقاً للمؤلفين؛ هذه المتغيّرات يجب أخذها بعين الاعتبار في الدراسات المستقبليّة.
هل يتلاعب المرض بسلوكياتنا؟
وفقاً للوبس؛ تطرح الورقة بعض الأسئلة المثيرة للاهتمام، على سبيل المثال: كيف يتلاعب العامل الممرض بسلوكياتنا ليزيد احتمال بقائه وتكاثره؟ الأبحاث التي تنظر في «طريقة تغيّر سلوك الأفراد المصابين، وكيف يكشف الأفراد الآخرين هؤلاء المصابين، وما هي الاستجابات التي تحفّزها العوامل الممرضة من تلك التي تنبع من المصابين أنفسهم؛ كلها ستزيد فهمنا لطرق انتشار الأمراض في الجماعات، وستقود إلى تحسين السياسات المتعلّقة بالصحة العامة.
وفقاً لستكوماير: «عموماً، أعتقد أن اكشتاف الطبيعة والآليات التي أصبحت مهمّةً للغاية بالنسبة لنا بشكلٍ مفاجئ هو أمر رائع». على عكس البشر، فإن الحيوانات ليس لديها شبكات إخبارية أو مواقع تواصل اجتماعي لتقود سلوكياتها.
يقول ستوكماير: «كيف يعلم أفراد النمل أنهم يجب أن يتجنّبوا بعضهم عند المرض؟ إنّه لأمر مدهش أن الحيوانات قد طوّرت هذه الآليات واستخدمتها، وأنّها أيضاً فعّالة للغاية».
هذا المقال محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً