بالقرب من جزر برمودا، كان هناك دولفين قاروري الأنف له ممصات خاصة مقعرة الشكل تمكّن زعانفه من الغوص لمسافات أعمق. وبعد الغوص بثلاث عشرة دقيقة، خرج الدولفين إلى الهواء بعد أن غطس لمسافة ألف متر- وهي مسافة أكبر من أطول مبنى في العالم- في أعماق المحيط الأطلسي بحثاً عن الطعام.
فاجأ هذا الغوص العميق عالم الفيزياء أندرياس فالمان. فعادة ما تبقى أنواع الدلافين الساحلية التي تعيش بالقرب من سواحل فلوريدا على أعماق ضحلة خلال جولة البحث عن الطعام، ولا يزيد عمق الغوص عادة عن 10 أمتار. وفي عام 1965، تم تدريب الدولفين "توفي" من قبل البحرية الأميركية على الغوص لعمق 300 متر. ولكن فالمان يقول إن الدلافين الساحلية لن تكون قادرة على الغوص لعمق ألف متر مثل الدلافين البحرية من نفس النوع.
وكان فالمان يريد الإجابة على السؤال التالي: "إلى أي مدى يمكن زيادة كفاءة وظائف الأعضاء لنفس النوع ليعيش أنماط حياة مختلفة تماماً؟".
في البداية، افترض فالمان أن الدلافين الرياضية البحرية، سيكون لها بنية رئوية مختلفة أو معدل أيض أقل (مما سيساعد في الحفاظ على الطاقة عند هذه السلالة الجريئة) مقارنة بالدلافين الساحلية الكسولة. لكن النتائج التي توصلت إليها دراسته أظهرت أن كلا الأمرين غير صحيح، فقد ظهر أن نوعي الدلافين متطابقان تماماً.
وانطلاقاً من حيرته، أجرى دراسة متابعة. وتم نشر الدراستين هذا الأسبوع في يوليو 2018 في مجلة فرونتيرز إن فيسيولوجي. وتوصل فالمان إلى فرضية جديدة: الفرق بين نوعي الدلافين هو في دمائها.
ووجد فالمان وفريقه أن الدلافين التي تغوض لمسافات أعمق لديها نسبة أعلى من خلايا الدم الحمراء بمقدار 25 في المائة مقارنة بنظرائها من الدلافين التي تسبح في الأعماق الضحلة. وتحتوي خلايا الدم الحمراء على بروتين يسمى الهيموجلوبين(خضاب الدم)، وهو يساعد الخلايا على حمل الأوكسجين في جميع أنحاء الجسم. وكلما زادت خلايا الدم الحمراء، زادت كمية الأوكسجين التي يمكنك حملها.
يقول فالمان: "يشبه الأمر الغوص مع خزان وقود كبير، فالأنواع التي تغوص لأعماق أكبر تملأ وقوداً أكثر".
وقد تكون الدلافين تخزن الأوكسجين في عضلاتها بنفس الطريقة التي تخزن بها الحيتان الأوكسجين عن طريق الميوجلوبين (خضاب العضل)، وهو بروتين يحمل الأوكسجين الموجود في الخلايا العضلية. ولا تملك دلافين جزيرة برمودا خلايا دموية حمراء أكثر وحسب، بل يشير فالمان إلى أنها تستطيع أيضاً التحكم في تدفق الدم لحماية أنفسها أثناء الغوص العميق. يقول فالمان إن الدلافين الساحلية تمتلك القدرة نفسها على الأرجح، لكن التمسك بالمياه الضحلة يعني أنها لن يكون لديها سبب للقيام بذلك في كثير من الأحيان.
مثل غواصي السكوبا، فإن الدلافين معرضة لخطر مرض تخفيف الضغط، المعروف أكثر باسم "مرض التحني". عندما تغوص بوجود الهواء المضغوط، ينتشر النيتروجين في مجرى الدم. ومن المهم جداً أن تسبح عائداً ببطء حتى يتاح للغاز أن يذوب بشكل طبيعي. إذا عدت للسطح بسرعة كبيرة، فإن الانخفاض المفاجئ في الضغط يتسبب في تشكل فقاعات النيتروجين في الدم، والتي يمكن أن تسبب آلام المفاصل، أو الدوار، أو صعوبة المشي، أو في الحالات القصوى ، تؤدي إلى الغيبوبة أو الموت.
وأثبتت الدراسات السابقة أن التكوين الفريد لرئة الدولفين هي التي تبقيه في مأمن من المرض. وتملك هذه المخلوقات البحرية الذكية رئة قابلة للانهيار؛ فعندما توضع تحت ضغط هائل - مثل غوص لعمق 1000 متر - تنهار إحدى حجرتي الرئة، بينما تبقى الأخرى مفتوحة للسماح بتبادل الغازات. وبحسب نظرية فالمان فإن الدلافين قادرة على إعادة توجيه تدفق الدم إلى الحجرة المنهارة، مما سيحد من تراكم فقاعات النيتروجين.
يقول فالمان: "نقترح أنها تستخدم طرقاً مختلفة تماماً لتنظيم الغازات، وليس فقط الاعتماد على انهيار الرئتين كما كان يُقترح سابقاً. وعلى عكس الثدييات البرية، تستطيع الدلافين إرسال الدم إلى مناطق الرئتين التي لا تتبادل الغازات".
لم يكتشف الباحثون سبب انطلاق الدلافين البحرية في رحلات بحرية عميقة من هذا القبيل، ولكن فالمان يرى أن الأمر قد يكون له علاقة بالتحولات التي تتعلق بالفرائس التي تتغذى عليها بسبب الاحترار العالمي. ففي هذه الأعماق، لا يزال بإمكان الدلافين على الأقل الوصول إلى وجبات الطعام الكامنة تحت السطح، مثل الحبار.
ويرى فالمان أن هذه القدرة على الغوص يمكن أن تعطي الدلافين اليد الطولى في التكيف مع التغير المناخي، على عكس حيوانات المحيط الأخرى التي تواجه الانقراض والتي تستمر بيئاتها في الاختفاء.
يقول فالمان: "هناك الكثير مما يمكن أن تفعله الدلافين للحفاظ على بقائها. وبغض النظر عن مدى الضرر الذي يلحق بالبيئة، يمكنها التكيف من خلال الكثير من الأشياء التي كانت وما زالت تفعلها للحفاظ على بقائها".