تبدو حياة الدجاج في الأقفاص التجارية الكبيرة مليئة بالفوضى. وتعيش في هذه الحظائر آلاف من الدجاج خارج الأقفاص. حيث تأخذ غذاءها من أحد مستويات القفص، وتنام في مستوى آخر، وتضع البيض في مناطق التعشيش في مستوى ثالث.
يحاول مايكل توسكانو الباحث في مجال رعاية الحيوان أن يفهم هذه الفوضى. وهو يتتبع مع زملائه سلوك الدجاج عندما يتحرك داخل هذه الأقفاص الكبيرة متعددة المستويات. وما تزال الدراسة مستمرة، والنتائج لم تنشر بعد، ولكن ما اكتشفوه إلى الآن مثير للدهشة.
يقول توسكانو الذي يتخذ من جامعة بيرن مقراً له: "يمكنك التجول في الحظيرة لتجد 15 ألف طائر بني تحرك رؤوسها، وتبدو جميعها ذات شكل واحد. ولكن، وبنظرة أكثر عمقاً على الأفواج الصغيرة التي أتتبعها على الأقل، ستجد أن لكل واحد منها نظامه الخاص، وكل طائر مختلف عن الآخر".
كل دجاجة لها -كالبشر- برنامجها اليومي الخاص الذي تلتزم به بدقة. ويرغب توسكانو في تعلم المزيد عن هذه الأنماط السلوكية، في محاولة لاستخلاص العوامل التي تحفز السلوكيات الصحية لوضع البيض. وهذا ما سيعود بالنفع على منتجي البيض وعلى الدجاج البياض نفسه.
وضع الخطة
وبدأت دراسة تتبع الدجاج الممولة من مؤسستين لحماية الحيوان وكذلك من الحكومة السويسرية، كوسيلة لدراسة كسور العظام، وهي مشكلة واسعة الانتشار في تربية الدجاج خارج القفص. فعندما ترفرف الطيور وتقفز حول القفص الكبير فإنها على الأرجح ستؤذي نفسها، من خلال الاحتكاك بالأقفاص أو بالطيور الأخرى. ففي الأفواج البالغة، تصل نسبة الطيور التي تعاني من كسر في عظم القص إلى 86%. ويتساءل توسكانو: "إذا كانت الطيور تتضرر من هذه الكسور، فكيف يؤثر ذلك على حركتها؟".
وقد لاحظ توسكانو وزملاؤه في الوقت نفسه أن بعض الطيور في القفص الكبير تختار أن تبقى في الخلاء طوال الوقت، بينما هناك من لا يخرج أبداً. يقول توسكانو: "أذا قمت بزيارة أحد هذه الأفواج التجارية الضخمة التي لها اتصال مع الخلاء، فستجد أن حوالي 70 % تبقى في الداخل. ويقوم المربون بعمل ما بوسعهم، ولكن الطيور تفضل ألا تخرج. ولكن ما السبب؟".
وأشارت الدراسات الأولية للمجموعة إلى أن الدجاج الذي كان يخرج إلى الخلاء كان يملك عظاماً ورئتين أكثر صحة، بل قد يكون أكثر سعادة. وتشير الأدلة إلى أنه عندما تشعر القوارض بالسعادة، فإن خلايا عصبية جديدة تنمو في قرن آمون في دماغها ، في حين أن الخلايا العصبية تميل إلى الانخفاض عند القوارض التي تعاني من اكتئاب مزمن. وبالمثل، فإن الطيور التي تخرج بشكل منتظم كانت تملك مؤشرات أعلى للنمو العصبي.
وعن طريق وضع أداة تتبع تثبت بجسم الطائر، يأمل توسكانو أن يعرف المزيد عن العوامل التي تزيد أو تقلل من احتمال خروج الطيور إلى الخلاء، وكيفية تأثير تضرر عظم القص على حركة الطائر وإنتاجه للبيض.
البحث عن وسيلة للتتبع
وللبدء بهذه الخطة، كان على الباحثين إيجاد وسيلة لتتبع كل طير على حدة. يقول توسكانو: "تشبه الأقفاص الكبيرة للدجاج المدن، حيث تضم كل منها ما بين 500 و300 ألف طائر. ولا يوجد طريقة لتمييزها ما دامت جميعها متشابهة في الحجم واللون".
ويستطيع المزارعون تتبع الأبقار الحلوب بسهولة، لأنها حيوانات كبيرة، ويمكن أن تحمل كل منها أداة تحديد موقع تغذى بالبطارية، وأجهزة قياس التسارع، وهي تنبه الأطباء البيطريين في حال تعرض أي من أفراد القطيع للأذى. ولكن الدجاج أصغر حجماً، ولذلك توجّب على الفريق تطوير أداة تعقب خاصة به.
وكان أحد الخيارات استخدام أجهزة تعقب بتقنية تحديد الهوية بموجات الراديو RFID. ولا تتطلب هذه الشرائح الصغيرة استخدام بطاريات لتشغيلها، ولكن عندما يمر الطائر من أمام هوائي، يقوم بالتعرف إلى الشريحة الشخصية المربوطة إلى كاحل الطائر، ويسجل هويته، وتوقيت وجوده وموقعه على جهاز الحاسوب. والمشكلة الوحيدة مع هذه التقنية هي أن نظام أمواج الراديو لا يعمل جيداً داخل الأقفاص الكبرى للطيور التي تصنع غالباً من المعدن.
والخيار الآخر، والذي أدى إلى نتائج أفضل، كان استخدام أحزمة الأشعة تحت الحمراء. حيث توضع هذه الأحزمة في قطاعات مختلفة من القفص مقابل المجاثم حيث تنام الطيور، ويتم ترميزها بإشارات مختلفة. وعندما ترد إشارة من الحزام إلى جهاز التتبع الموجود على كاحل الطائر، فإنها تخبر جهاز التتبع عن القطاع الموجود فيه الطائر وتوقيت مروره. وتسجل هذه البيانات على الجهاز المربوط بكاحل الطائر، ويقوم الباحثون بتحميلها كل عشرة أيام تقريباً.
والنتيجة هي مخطط بياني يعرض حركة الدجاج هبوطاً وصعوداً ضمن مستويات القفص خلال اليوم. وقد وجد الباحثون حتى الآن، أن البرنامج اليومي لكل طائر فريد من نوعه، وأنه يتّبع البرنامج ذاته كل يوم. يقول توسكانو: "لم نكن نتوقع هذا التناسق في البرنامج اليومي للدجاج، بحيث يمكنك تحديد الطائر بمجرد النظر إلى المخطط".
وتقول كريستين نيكول الباحثة في مجال رعاية الحيوان في جامعة بريستول، والتي لم تكن مشاركة في الدراسة: "يعد التتبع الفردي للحيوانات في المجموعات الكبيرة هدفاً مهماً، ولكن كان من الصعب الحصول على هذه التقنية التي تعِدُ بالكثير للعمل الحقلي. ويمكن القول إن مايكل توسكانو قد حصل على نظام تسجيل شديد الإتقان".
قام توسكانو وفريقه بتطبيق أجهزة التتبع على 120 دجاجة منتشرة في ستة أقفاص سعة كل منها 225 طائراً. وقاموا بتتبع مواقع الطيور خلال ستة أيام في 11 نقطة زمنية لطيور بأعمار تتراوح بين 21 و63 أسبوعاً. وفي كل نقطة زمنية، قاموا بعمل صور بالأشعة السينية لكل طائر. فإذا كان عظم القص مكسوراً، فسيكونون قادرين على مقارنة مستويات نشاطه قبل الكسر وبعده. ويمكن لهذه البيانات أن توضح كيفية تأثير الكسر على حركة الطائر، وترشد المزارعين لكيفية التعرف إلى علامات كسر عظم القص في أفواج الطيور التي يقومون بتربيتها.
وبتغذية الدجاج على حبوب تحتوي أصباغاً خاصة تُغير لون صفار البيض الذي تنتجه، سيقوم الباحثون بتتبع أعداد البيض التي تنتجها كل دجاجة، وكيف تتأثر بحركة الدجاجة والأذى الذي يصيب عظم القص. وإذا أظهرت البيانات أن الطيور التي تعاني من كسر في عظم القص لا تنتج الكثير من البيض، فسيوفر هذا حافزاً إضافياً للمزارعين لعلاج هذه المشكلة. ويأمل توسكانو في النهاية أن يوسع نطاق هذه التجربة لمعرفة ما إذا كانت هذه الأنماط السلوكية موجودة في الأفواج الكبيرة المؤلفة من 15000 طائر.
أدمغة الطيور
ومع تدفق المعلومات القادمة من أجهزة التتبع، يستطيع توسكانو وفريقه البدء بالبحث عن أنماط سلوكية جديدة ضمن الفوضى التي توحيها حياة الدجاج. هل تميل مجموعات الطيور غالباً لاستخدام نفس الطبقة من القفص؟ (بعبارة أخرى، هل لها أصدقاء؟) وإذا غيّر أحد الطيور نمطه السلوكي، هل سيؤثر هذا في بقية المجموعة؟
يقول توسكانو: "نعلم أنه عندما تصاب الطيور بأذى، فإنها تتحرك بطريقة مختلفة، ولكن حجمها اليوم أصبح أكبر من أن تفعل ذلك. وبالنظر إلى المخططات البيانية، سيتبين لك بالتأكيد أنك أمام حيوانات قادرة على التفكير".وربما لا يكون هذا ما يرغب منتجو ومستهلكو البيض سماعه، وإن لم يكن مفاجئاً لهم تماماً.
يقول توسكانو: "يفتح هذا البحث المجال أمام الكثير من الأسئلة الصعبة، ولكنها أسئلة من المهم أن تطرح. فإذا كانت الحيوانات تزودنا باللحم والحليب والبيض، فستقع على عاتقنا مسؤولية تلبية معايير محددة لها. ويجب علينا أن نبحث عما تريده وما يشعرها بالسعادة، وعلينا بعد ذلك أن نؤمنه لها".