أسماك القرش البيضاء الكبيرة هي من أكبر أسماك القرش المفترسة التي تجوب بحار العالم، إذ قد يصل طول الواحد منها إلى 6 أمتار. ولكن لم تكن هذه الأسماك هي الأكبر دائماً. إذ ولّدت عائلة أسماك القرش التي اسمها "ذات الأسنان الكبيرة" منذ ملايين السنين واحدة من أكبر الحيوانات آكلة اللحوم التي عاشت على الإطلاق، وهي أسماك قرش الميجالودون التي يقدّر أن أطوالها كانت تصل إلى 15-18 متراً.
مع ذلك، فقد اختفى الميجالودون الهائل فجأة من السجل الأحفوري منذ نحو 3.6 مليون سنة، بعد وقت قصير من ظهور أسماك القرش البيضاء الكبيرة. وتكهن العلماء بأن النوعين ربما تنافسا على الفرائس، ما ساهم في النهاية في انقراض الميجالودون.
توفّر دراسة جديدة نُشرت في 31 مايو/أيار 2022 في مجلة "نيتشر كوميونيكيشنز" أدلة غير مباشرة تدعم هذه التكهنات. قارن الباحثون في هذه الدراسة التركيب الكيميائي لأسنان أسماك القرش الحية والمنقرضة وخلصوا إلى أن أسماك القرش البيضاء الكبيرة والميجالودون كانت لديها درجات مماثلة في السلسلة الغذائية في عصور ما قبل التاريخ.
يقول عالم الحفريات في جامعة بيزا في إيطاليا "ألبيرتو كولاريتا"، والذي لم يشارك في الدراسة الجديدة: "يعتبر الميجالودون لغزاً من نواح كثيرة". درس كولاريتا علامات العض التي أحدثتها أسماك قرش الميجالودون على الأرجح على العظام المتحجرة لحيتان البالين وزعنفيات الأقدام (المجموعة التي تشمل الفقمة وأقاربها). يعتمد فهمنا لنظام أسماك قرش الميجالودون الغذائي بشكل أساسي على مثل هذه العلامات وعلى أسنانها المسننة التي تعتبر أكثر عرضة للتحجّر من هياكلها العظمية الغضروفية.
يقول كولاريتا إن الورقة البحثية الجديدة "مفيدة وعميقة للغاية لأنها توفّر بيانات جيوكيميائية كميّة تساعدنا في التحقق من الفرضيات السابقة".
بداية عهد التنافس
بدأت أسماك القرش البيضاء الكبيرة في الخروج من المحيط الهادئ والظهور في البحار حول العالم منذ نحو 4 ملايين سنة. ومن المحتمل أن يكون هذا الحدث عجّل بزوال الميجالودون كما اقترح عالم الحفريات في كلية تشارلستون في ولاية كارولاينا الشمالية "روبرت بوسينيكر"، (والذي لم يشارك في البحث الجديد أيضاً) وزملاؤه سابقاً.
كتب بوسينيكر في رسالة عبر البريد الإلكتروني: "كنت أعتقد في ذلك الوقت أن هذه الفرضية مستبعدة ولم أفكر ملياً في طرق لاختبارها"، وأضاف قائلاً إن الدراسة الجديدة "لا تحاول اختبار هذه الفرضية فحسب، بل وجدت أدلة تدعمها!".
وفقاً لـ "جيريمي مكورماك" عالم الجيولوجيا في جامعة غوته في فرانكفورت في ألمانيا والمؤلف المشارك للورقة البحثية الجديدة، يكشف النظام الغذائي للحيوانات الكثير عن سلوكها ودورها في النظام البيئي. تترتّب الحيوانات ضمن كل نظام بيئي في تسلسل هرمي يُعرف بالمستويات الغذائية، سواء كانت من آكلات الأعشاب أو الحيوانات المفترسة أو في مكان ما بينهما. يحدد الباحثون عادةً مستوى الحيوان من خلال فحص نظائر النيتروجين المختلفة في جسمه. تحصل الحيوانات على نظائر النيتروجين الأثقل من أجسام فرائسها. وتوجد هذه النظائر بوفرة عادة في عاج أسنان المفترسات والكولاجين الموجود في عظامها وفي مادة الكيراتين. لكن هذه الأنسجة لا تتحجر بشكل جيد، لذا فإن هذه التقنية تعمل فقط في الحيوانات الحديثة والمتحجرة حديثاً.
اقرأ أيضاً: حكاية فريق بحثي في جزر البهاما لمعرفة كيف تتكاثر أسماك القرش
على النقيض من ذلك، يترسّب الزنك الذي يعتبر مغذياً أساسياً للنباتات والحيوانات والكائنات الحية الأخرى في أقوى جزء من الأسنان، وهو المينا، أو في حالة أسماك القرش، مادة تدعى "شبيه المينا". يتم حفظ هذه المادة عند تحجّر الأسنان. بالإضافة لذلك، كلما ارتفع مستوى الحيوان في السلسلة الغذائية، ازدادت نسبة نظائر الزنك الأخف في جسمه مقارنة بنظائر الزنك الأثقل. يقول مكورماك إن العلماء بدؤوا مؤخراً فقط في استخدام هذه التقنية، ودراسة فريقه هي أول من طبقها على أسماك القرش.
مستويات متقاربة في السلسلة الغذائية
قام الباحثون بفحص أسنان 20 نوعاً من أسماك القرش والأسماك الأخرى الموجودة حالياً مثل أسماك قرش النمر وأسماك قرش الثور وأسماك القرش "ماكو" قصيرة الزعانف وسمك الراهب والهلبوت، بالإضافة إلى 14 نوعاً من أسماك القرش المتحجرة. شمل التحليل كلاً من أسنان أسماك القرش البيضاء الكبيرة الموجودة حالياً والمتحجرة.
اقرأ أيضاً: تعّرف على هذا القرش الصغير الذي يأكل الأعشاب
عندما قارن الباحثون مستويات الزنك في أسنان الميجالودون وأسماك القرش البيضاء الكبيرة المتحجرة، وجدوا نسباً مماثلة من نظائر الزنك الخفيفة والثقيلة. يدل هذا على أن هذين النوعين من أسماك القرش كان لهما مستويين متقاربين في السلسلة الغذائية. وربما كانا يستهدفان الثدييات البحرية نفسها.
يقول مكورماك: "لا يمكننا القول إن هذين النوعين كانا على رأس المفترسات في النظام البيئي البحري"، لكنهما "كانا في مستويين مرتفعين في السلسلة الغذائية دون شك".
تحتوي أسنان أسماك قرش النمر على نفس النسب من نظائر الزنك التي كانت موجودة في عصور ما قبل التاريخ، ما يشير إلى أن مستواها الغذائي لم يتغير كثيراً لملايين السنين. لكن يبدو أن أسماك القرش البيضاء الكبيرة الحديثة قد صعدت إلى مستوى أعلى إلى حد ما مقارنة بسابقاتها. بالإضافة إلى ذلك، لم تكن أسماك قرش الميجالودون صاحبة أعلى مستوى غذائي، بل كانت تحتل أسلافها التي اسمها "أوتودوس تشوبوتينسيس" هذه المنزلة.
قد يكون انتشار وزوال بعض أنواع فرائس أسماك القرش مثل حيتان البالين الصغيرة سبباً لهذه التغيرات في المستويات الغذائية.
تتغذّى حيتان البالين على كميات هائلة من الكائنات الحية ذات المستويات الغذائية المنخفضة مثل الكريل بدلاً من الأسماك الضخمة والفقمات والحيوانات الأخرى التي تفضّلها الحيتان ذات الأسنان مثل الحيتان القاتلة. قال بوسينيكر إن حيتان البالين كانت "نادرة للغاية" في الوقت الذي كانت فيه أسماك القرش "أوتودوس تشوبوتينسيس" منتشرة. ما يعني أن هذه الأخيرة كانت تتغذى على الأرجح على الحيتان ذات الأسنان.
ظهرت في وقت لاحق حيتان البالين التي كانت أصغر بكثير من أقاربها المنتشرة الآن على الساحة، وربما كانت من الفرائس المعتادة لأسماك قرش الميجالودون وأسماك القرش البيضاء الكبيرة المبكرة. تختفي هذه الحيتان في الغالب من السجل الأحفوري في وقت قريب من انقراض الميجالودون. وربما دفع زوالها إلى ارتفاع المستوى الغذائي لأسماك القرش البيضاء الكبيرة المعاصرة.
يقول كولاريتا إن توسيع نطاق تحليل نظائر الزنك ليشمل الثدييات البحرية التي ربما كان يتغذّى عليها كل من الميجالودون وأسماك القرش البيضاء الكبيرة يمكن أن يدعم الاستنتاج الذي ينص على أن هذين النوعين من أسماك القرش كان لهما مستويات غذائية متقاربة.
اقرأ أيضاً: أسرع أسماك القرش في العالم يتعرض لمحنة حقيقية
يقول مكورماك: "لقد أظهرنا لأول مرة أن نظائر الزنك تعكس الأنظمة الغذائية للحيوانات على مدى ملايين السنين"، ويضيف: "هذه الطريقة واعدة للغاية، لكننا بالطبع بحاجة إلى إجراء المزيد من الأبحاث للوصول إلى فهم حقيقي لسلوك الزنك داخل الكائنات الحية وعبر المستويات الغذائية المختلفة".
علماء الحفريات الآخرون متحمسون لتطبيق طريقة فحص نظائر الزنك. إذ قال بوسينيكر: "هذه أداة جديدة قوية تفيد في اكتشاف بنية المستويات الغذائية للفقاريات البحرية المنقرضة"، وأضاف: "أنا أتطلّع بلهفة إلى استخدام طرق مماثلة لدراسة الثدييات البحرية المتحجرة".