هل من الممكن حقّاً أن تمحو ذكرياتك المؤلمة؟

4 دقائق
هل من الممكن حقّاً أن تمحو ذكرياتك المؤلمة؟
حقوق الصورة: نونغ في/ أنسبلاش.

تقوم جميع أجهزة تخزين الذاكرة، ابتداءً من الدماغ البشري ووصولاً إلى ذاكرة الوصول العشوائي في جهاز الكمبيوتر، بتخزين المعلومات عن طريق تغيير خصائصها المادية. لقد اقترح عالم الأعصاب الرائد سانتياغو رامون واي كاجال، منذ أكثر من 130 عاماً، أن الدماغ يخزن المعلومات عن طريق إعادة تنظيم الوصلات بين الخلايا العصبية، والتي تُعرف أيضاً بالمشابك العصبية.

منذ ذلك الحين، حاول علماء الأعصاب فهم التغيرات الجسدية المرتبطة بتكوين الذاكرة. لكن تصوير المشابك ورسم خرائطها صعب للغاية نظراً لأن نقاط الاشتباك العصبي صغيرة جداً وقريبة جداً من بعضها بعضاً. وهي أصغر بنحو 10 مليارات مرة من أصغر جسم يمكن أن يتم تصويره بتقنية الرنين المغناطيسي، وعلاوة على ذلك، هناك نحو مليار مشبكٍ عصبي في أدمغة الفئران التي يستخدمها الباحثون لدراسة وظائف المخ، وجميعها تتشابه ألوانها، وهي تتدرج من اللون الغامق إلى اللون شبه الشفاف، مع لون الأنسجة المحيطة بها.

لكن تقنية تصوير جديدة سمحت لي ولزملائي برسم نقاط الاشتباك العصبي أثناء تكوين الذاكرة. وقد اكتشفنا أن عملية تكوين ذكرياتٍ جديدة تغير كيفية ارتباط خلايا الدماغ ببعضها بعضاً، حيث تنشأ في بعض مناطق الدماغ المزيد من نقاط الاشتباك العصبي، بينما تفقد مناطق أخرى هذه النقاط.

رسم خرائط الذكريات الجديدة في الأسماك

ركز الباحثون دراساتهم سابقاً على تسجيل الإشارات الكهربائية التي تنتجها الخلايا العصبية. على الرغم من أن هذه الدراسات أثبتت أن الخلايا العصبية تغير استجابتها لمنبهاتٍ معينة بعد تكوين الذاكرة، إلا أنها لم تتمكن من تحديد سبب هذه التغييرات بالضبط.

لدراسة كيف يتغير الدماغ مادياً عندما يكون ذاكرةً جديدة، أنشأنا خرائط ثلاثية الأبعاد لنقاط الاشتباك العصبي في أسماك الزرد قبل تكوين الذاكرة وبعدها. اخترنا أسماك الزرد كموضوعات اختبار لأنها كبيرةٌ بما يكفي كي تمتلك أدمغة تعمل بآلية مشابهة لآلية عمل الدماغ البشري، بالإضافة إلى أن أدمغتها صغيرة وشفافة بحيث يمكن دراسة دماغها الحي مباشرةً.

الذكريات المؤلمة
تعتبر أسماك الزرد نماذج مناسبة بشكل خاص لأبحاث علم الأعصاب. حقوق الصورة: الكاتب.

لحث دماغ السمكة على تكوين ذاكرةٍ جديدة، استخدمنا شكلاً من عملية التعلم يُسمى التكييف أو الإشراط الكلاسيكي. حيث ينطوي على تعريض الحيوان لنوعين مختلفين من المنبهات في وقت واحد؛ أحدهما محايد لا يثير رد فعل والآخر منفّر يحاول الحيوان تجنبه. عندما يُقرن هذان المنبهان معاً مرات كافية، يستجيب الحيوان للمنبه المحايد لوحده كما لو كان يستجيب للمنبه المنفر، ما يشير إلى أن الحيوان أنشأ ذاكرة ترابطية تربط هذه المنبهات معاً.

كمحفز منفر، قمنا بتسخين رأس السمكة بلطف باستخدام ليزر الأشعة تحت الحمراء. عندما حركت السمكة ذيلها، اعتبرنا ذلك مؤشراً على رغبتها في الهرب. عند تعريض السمكة بعد ذلك لمنبه محايد، وهو عبارةٌ عن تسليط ضوءٍ عليها فقط، تقوم بتحريك ذيلها، أي أنها تذكرت ما حدث عندما واجهت سابقاً المنبه المنفر.

تصوير المشابك 

لإنشاء خرائط المشابك العصبية، قمنا بتعديل أسماك الزرد وراثياً بالخلايا العصبية التي تنتج بروتينات الفلورسنت التي ترتبط بالمشابك وتجعلها مرئية. ثم قمنا بتصوير المشابك باستخدام مجهر مصمم خصيصاً يستخدم قدراً أقل بكثير من ضوء الليزر مقارنةً بالمجاهر القياسية التي تعتمد على الفلورة أيضاً لتوليد الصور. ونظراً لأن مجهرنا تسبب في ضرر أقل للخلايا العصبية، فقد تمكنا من تصوير نقاط الاشتباك العصبي دون فقدان هيكلها ووظيفتها.

الذكريات المؤلمة
لقطة من الخلايا العصبية في دماغ سمكة حي تظهر فيها نقاط الاشتباك العصبي ملونة باللون الأخضر. حقوق الصورة: الكاتب.

عندما قارنا خرائط المشابك ثلاثية الأبعاد قبل تكوين الذاكرة وبعدها، وجدنا أن الخلايا العصبية في منطقة دماغية واحدة، وهي الباليوم الظهري الأمامي الجانبي، قد طورت مشابكاً عصبية جديدة، بينما فقدت الخلايا العصبية السائدة في منطقةٍ أخرى، تحديداً في الباليوم الظهري الأمامي، المشابك العصبية. هذا يعني أن خلايا عصبية جديدة كانت تقترن معاً، بينما قطعت الخلايا العصبية الأخرى الروابط فيما بينها. في الحقيقة، لقد اقترحت التجارب السابقة أن الباليوم الظهري للأسماك قد يكون مشابهاً للوزة المخية للثدييات، حيث تُخزن ذكريات الخوف.

من المثير للدهشة أن التغييرات في قوة المشابك الموجودة بين الخلايا العصبية، والتي حدثت مع تكوين الذاكرة كانت صغيرة ولا يمكن تمييزها عن التغييرات في قوة المشابك الموجودة بين الخلايا العصبية عند الأسماك الضابطة التي لم تكوّن أي ذكرياتٍ جديدة. هذا يعني أن تكوين ذاكرة ارتباطية ينطوي على تكوين المشابك العصبية وفقدانها، ولكن ليس بالضرورة تغييرات في قوة المشابك العصبية الموجودة كما كان يعتقد سابقاً.

هل يمكن لإزالة المشابك العصبية محو الذكريات؟

لا يمكن أن تفتح طريقتنا الجديدة في مراقبة وظائف خلايا الدماغ الباب فقط أمام فهم أداء الذاكرة الفعلي بشكلٍ أعمق وحسب، بل وأمام خيارات جديدة محتملة لعلاج الأمراض العصبية والنفسية مثل اضطراب ما بعد الصدمة والإدمان.

عادة ما تكون الذكريات الترابطية أقوى بكثير من أنواع الذكريات الأخرى، مثل الذكريات الواعية حول ما تناولته على الغداء بالأمس. علاوة على ذلك، يُعتقد أن الذكريات الترابطية الناتجة عن التكييف الكلاسيكي تشبه في طبيعتها الذكريات المؤلمة التي تسبب اضطراب ما بعد الصدمة. بخلاف ذلك، يمكن للذكريات غير المؤذية، والمشابهة لما عانى منه شخص ما وقت الصدمة، أن تحفز استدعاء الذكريات المؤلمة. على سبيل المثال، يمكن للضوء الساطع أو الضوضاء العالية أن يعيدا ذكريات المعارك. تكشف دراستنا عن الدور الذي يمكن أن تلعبه المشابك العصبية في الذاكرة، ويمكن أن تفسر سبب استمرار الذكريات الترابطية لفترة أطول وتذكرها بوضوح أكبر من الأنواع الأخرى من الذكريات.

ينطوي العلاج الشائع حالياً لاضطراب ما بعد الصدمة، وهو العلاج بالتعرض، على تعريض المريض بشكلٍ متكرر لمحفز غير ضار ولكنه يحفز قمع استدعاء الحدث الصادم. من الناحية النظرية، يعيد ذلك تشكيل المشابك العصبية بشكل غير مباشر بحيث تصبح الذكريات أقل إيلاماً. وعلى الرغم من أن العلاج بالتعرض قد حقق بعض النجاح، إلا أن المرضى يبقون عرضة للانتكاس. هذا يشير إلى أن الذاكرة الأساسية التي تسبب الاستجابة الصادمة لم تُمحَ تماماً.

لا يزال من غير المعروف ما إذا كان توليد المشابك وفقدانها يؤديان بالفعل إلى تكوين الذاكرة. لقد طورت في مختبري تقنية يمكنها إزالة المشابك العصبية بسرعة وبدقة دون الإضرار بالخلايا العصبية، ونخطط لاستخدام طرق مماثلة لإزالة نقاط الاشتباك العصبي في أسماك الزرد أو الفئران لمعرفة ما إذا كان هذا يؤثر على الذكريات الترابطية.

قد يكون من الممكن محو الذكريات الترابطية التي تكمن وراء الظروف المدمرة مثل اضطراب ما بعد الصدمة والإدمان باستخدام هذه الأساليب من الناحية المادية، ومع ذلك، وقبل أن يتم النظر في مثل هذا العلاج، يجب تحديد التغييرات المشبكية التي تشفر الذكريات الترابطية بدقة أكبر. ومن الواضح أن هناك عقبات أخلاقية وتقنية خطيرة يجب معالجتها، ومع ذلك، إنه لأمر رائع تخيل أنه يمكنك في المستقبل إجراء جراحة على المشابك تمحو بها الذكريات السيئة وتخفف الألم عن آلاف المرضى الذين يعانون منها.

المحتوى محمي