استُخدمت المبيدات الكيميائية على نطاق واسع جداً للتخلص من الآفات في العقود الماضية، ما كان له آثار سلبية بالغة على صحة الإنسان والبيئة والغلاف الجوي والتربة، ناهيك عن أنها تقتل الكائنات النافعة بالإضافة إلى الضارة، دون تفريق بينهما. أضف إلى ذلك أن الآفات الضارة أصبحت مقاومة لهذه المبيدات، ودعت الحاجة إلى بدائل أفضل، لذلك التفت العلماء إلى استخدام الأعداء الطبيعيين للآفات للقضاء عليها وتخفيف آثارها، فيما يعرف بعلم "المكافحة الحيوية".
ما هي المكافحة الحيوية؟
المكافحة الحيوية هي تقليل أعداد آفة ما بواسطة أعدائها الطبيعيين، بتدخل بشري نشط. الأعداء الطبيعيون هم المفترسات أو مسببات الأمراض للآفة، ويُعيد البشر نشر هؤلاء الأعداء بأعداد كبيرة في المنطقة التي تتفشى فيها الآفة. قد تكون الآفات حشرات أو أعشاب ضارة أو مسببات الأمراض كالجراثيم والفيروسات والفطريات والطفيليات، التي تهاجم المحاصيل أو الحيوانات الأليفة أو حتى البشر، وتسبب أضراراً صحية واقتصادية لهم.
غالباً ما يوجد أكثر من عدو طبيعي واحد للآفة، ويكون دور الباحثين في المكافحة الحيوية تحديد أكثرها فعالية دون الإضرار بالنظام البيئي، أو توليد مشكلة أكبر من مجرد وجود الآفة. لذلك يركز الباحثون على الأنواع التي تفوق فوائدها وجود أية عيوب فيها. ويجب أن يتمتع العدو الطبيعي الناجح بمعدل تكاثر مرتفع، وقدرة بحث جيدة وخصوصية للآفة، وأن يكون قابلاً للتكيف مع الظروف البيئية المختلفة، وأن يكون وجوده متزامناً مع وجود الآفة. لا يوجد عدو طبيعي يحمل كل هذه الصفات، ولكن الذي لديه العديد منها يكون الأكثر أهمية في المكافحة.
المكافحة الحيوية ليست حديثة العهد، فقد لاحظ الصينيون القدماء أن النمل كان مفترساً فعالاً للعديد من آفات الحمضيات، لذلك كانوا يأخذون مستعمرات النمل من موائلها الطبيعية في المناطق المحيطة، ويضعونها في بساتينهم. واليوم، يتبع البشر نفس الآلية، لكن من على أبعاد كبيرة، فقد يُنقل أحد أنواع الأعداء الطبيعيين لحشرة ضارة من بلد إلى آخر لمكافحتها.
مناهج المكافحة الحيوية
هناك ثلاثة مناهج عامة للمكافحة الحيوية وهي: استيراد الأعداء الطبيعيين وزيادة أعدادهم والحفاظ عليهم. يمكن استخدام كل من هذه التقنيات إما بمفردها أو مجتمعة في برنامج المكافحة الحيوية.
1- استيراد الأعداء الطبيعيين
استيراد الأعداء الطبيعيين هي الطريقة التقليدية للمكافحة. وهنا لا تكون المنطقة المنتشرة فيها الآفة موئلاً طبيعياً لها، لذلك لن يكون لها أعداء طبيعيون، فتتكاثر بأعداد كبيرة دون رادع، ما يضر بالكائنات الحية في المنطقة. في هذه الحالة، يكون استيراد الأعداء الطبيعيين فعالاً للغاية.
بمجرد تحديد بلد منشأ الآفة، تُستكشف المنطقة الأصلية للبحث عن أعداء طبيعيين. إذا تم تحديد هؤلاء الأعداء، فقد يتم تقييمهم من أجل التأثير المحتمل على كائن الآفة في البلد الأصلي أو بدلاً من ذلك يتم استيرادهم إلى البلد الجديد لإجراء المزيد من الدراسات.
لا يستورد الأعداء الطبيعيون بشكل عشوائي، ففي بعض الدول، كالولايات المتحدة يكون ذلك بموجب تصريح من وزارة الزراعة الأميركية. ويجب أولاً وضعهم في الحجر الصحي لجيل واحد أو أكثر للتأكد من عدم استيراد أي أنواع غير مرغوب فيها عن طريق الخطأ.
تتميز هذه الطريقة بأنها طويلة الأمد وغير مكلفة، إذ تنحصر التكلفة في جمع الأعداء الطبيعيين واستيرادهم وتربيتهم. وعندما يتم تحديد العدو الطبيعي المناسب بنجاح، فإنه نادراً ما يتطلب مدخلات إضافية ويستمر في قتل الآفة بدون مساعدة مباشرة من البشر وبدون تكلفة. في المقابل، تقتصر فعالية هذه الطريقة ضد الآفات الغريبة، فهي أقل فعالية ضد الآفات المحلية. وغالباً ما تكون أسباب الفشل غير معروفة، ولكنها قد تشمل إطلاق عدد قليل جداً من الأفراد، وضعف تكيف العدو الطبيعي مع الظروف البيئية في موقع الإطلاق، وعدم التزامن بين دورة حياة العدو الطبيعي والآفة الموجودة.
2- زيادة فعالية الأعداء الطبيعيين
عند تفشي آفة ما في موئلها الطبيعي، هذا يعني وجود مشكلة يواجهها الأعداء الطبيعيون، فلا يمكنهم الاستجابة بسرعة كافية لإيقاف الآفة. في هذا الحالة يتلاعب البشر بالأعداء الطبيعيين لزيادة فعاليتهم. يتحقق ذلك بإنتاج الأعداء بأعداد ضخمة ونشرهم بشكل دوري في منطقة تفشي الآفة. ومع التطور في علم الهندسة الوراثية، يلجأ الباحثون لتحسين الأعداء الطبيعيين جينيّاً. على سبيل المثال، في المناطق التي لا يتمكن فيها عدو طبيعي معين من النجاة في فصل الشتاء، قد يسمح إطلاق أعداد منه في كل ربيع بالنمو بأعداد مناسبة لمكافحة الآفة بالشكل الأمثل، والقضاء عليها.
3- الحفاظ على الأعداء الطبيعيين
في المكافحة الحيوية، يعتبر الحفاظ على الأعداء الطبيعيين أمراً بالغ الأهمية. يتضمن ذلك تحديد العوامل التي قد تحد من فعالية عدو طبيعي معين، وإجراء تعديلات لزيادة فعالية الأنواع المفيدة. يكون الحفاظ عليهم بسيطاً بشكل عام وفعالاً من حيث التكلفة، ولا يحتاج الكثير من الجهد. يتضمن الحفاظ على الأعداء الطبيعيين تطبيق إحدى الطريقتين التاليتين:
- تقليل العوامل التي تتداخل مع الأعداء الطبيعيين.
- توفير المتطلبات التي يحتاجونها في بيئتهم كالغذاء مثلاً.
في الطريقة الأولى، يجب تحديد ما الذي يقلل الأعداء الطبيعيين ويعيق تحقيق مهمتهم الطبيعية، فقد يكون السبب:
- مبيدات الآفات: تطبيق مبيدات الآفات التي تقتل الأعداء الطبيعيين مباشرة، أو تسبب تقليل أعداد العوائل أو توفرها.
- الممارسات البشرية: مثل الحراثة أو حرق بقايا المحاصيل يمكن أن تقتل الأعداء الطبيعيين أو تجعل موائل المحاصيل غير مناسبة، فقد ينتج عن الحراثة المتكررة رواسب غبار على الأوراق، تؤدي إلى قتل الحيوانات المفترسة والطفيليات الصغيرة والتسبب في زيادة بعض الآفات الحشرية والعثية.
- النبات نفسه: تفرز بعض النباتات مواد كيميائية كوسيلة دفاع لإبعاد الكائنات غير المرغوبة، يمكن أن تقلل هذه الدفاعات من الأعداء الطبيعيين، لكن الآفات تتكيف معها. وقد تقلل الخصائص الفيزيائية للنبات المضيف، مثل شعر الأوراق، من قدرة العدو الطبيعي على العثور على المضيف ومهاجمته.
أما في الطريقة الثانية، يكون الحفاظ على الأعداء الطبيعيين بتأمين متطلباتهم في البيئة المحلية، كتأمين وجود مضيف بديل، وموارد غذائية للبالغين، وموائل شتوية، وإمدادات غذائية ثابتة، ومناخ محلي مناسب.
أمثلة عن المكافحة الحيوية
تبنت دول العالم أساليب المكافحة الحيوية منذ عقود، وأصبحت الأمثلة عنها لا تُعد ولا تحصى، لكن إليك بعضاً منها فقط.
مكافحة سوسة البرسيم
اكتُشف وجود "سوسة البرسيم" (Hypera postica) في الولايات المتحدة في ولاية يوتا عام 1904، على الرغم من أن أوروبا هي موطنها الأصلي. وبحلول عام 1970، انتشرت السوسة في جميع الولايات الـ 48 المجاورة وأصبحت آفة خطيرة على نبات البرسيم. كان الحل للتخلص منها استيراد الأعداء الطبيعيين الخاصين بها.
وبالفعل بدأ ذلك في وقت مبكر من عام 1911. ومن ثم أجرى موظفو وزارة الزراعة الأميركية استكشافاً في أوروبا ساعدهم على تحديد 12 نوعاً من الأعداء الطبيعيين واستيراد هذه الأنواع من أوروبا. نجح 6 منها في مكافحة هذه الآفة في شرق الولايات المتحدة.
اقرأ أيضاً: مشروع جينوم حشرة سوسة النخيل الحمراء
مكافحة الذبابة البيضاء
مثال آخر على المكافحة الحيوية داخل البيوت الزجاجية هو استخدام "الزنبور الطفيل" (Encarsia formosa Gahan) لقمع تجمعات الذبابة البيضاء (Trialeurodes vaporariorum)، وهي آفة تنتشر في محاصيل الخضروات وأماكن زراعة الأزهار وتشتهر بصعوبة إدارتها والتخلص منها، حتى مع استخدام مبيدات الآفات. عادة يتم إطلاق حشرة واحدة مقابل كل 8 نباتات من المحصول مباشرة بعد اكتشاف الذباب الأبيض الأول، فيمنع ذلك الآفة من التطور إلى مستويات ضارة بفعالية.
اقرأ أيضاً: من العالم إلى السعودية: العلم سلاح البشر في مكافحة البعوض الناقل للأمراض
مكافحة حمى الضنك
من الأمثلة المهمة عن المكافحة الحيوية، مكافحة الفيروسات المسببة لحمى الضنك، وذلك عن طريق القضاء على بعوضة "الزاعجة المصرية والبيضاء" (Aedes aegypti) الناقلة لها عن طريق "بكتيريا الفولباخيا" (Wolbachia bacteria)، التي تمنع تكاثر فيروس حمى الضنك داخل خلايا البعوض وتمنع انتقاله للإنسان.
نجحت أستراليا في القضاء على حمى الضنك بمساعدة منظمة الكومنولث للبحوث العلمية والصناعية بتطبيق المكافحة الحيوية لها، ومن ثم عملت مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية مع المنظمة ذاتها على نقل وتوطين وتطوير تقنيات المكافحة الحيوية "بكتيريا الفولباخيا" للقضاء على العدوى أيضاً.
كان هذا غيض من فيض علم المكافحة الحيوية، فهو علم لا ينتهي، يخلصنا من الآفات الضارة بطريقة طبيعية، دون رشة مبيد واحدة.