اليراعات الوامضة تحل لغزاً بحث عنه علماء الرياضيات منذ زمن طويل

4 دقائق
تومض اليراعات في متنزه كونغرتي الوطني في انسجام تام. Youtube

تخيل أنك في غابة مليئة بالأشجار المعمرة والأحراش في وقت غروب إحدى ليالي الصيف، ومع تلاشي أشعة الشمس وراء الأفق، يلفت انتباهك وميض صغير.

تنظر في الأرجاء، تحبس أنفاسك، ثم يومض مرة أخرى وهو يحوم على ارتفاع متر فوق بقايا الأوراق على الأرض. في عمق الغابة المظلم، ترى وميضاً آخر، ثم ترى وميضاً آخر فآخر، وفي غضون دقائق، تومض جميع اليراعات في جميع أرجاء الغابة الهادئة.

للوهلة الأولى، تبدو ومضات اليراعات غير منتظمة، ولكن سرعان ما تظهر بضعة أزواج متناسقة، تومض مرتين في الثانية بنفس الإيقاع. ثم تبدأ اليراعات بالوميض في مجموعات ثلاثية، ثم رباعية فخماسية، وفجأة تومض الغابة بأكملها بإيقاع مشترك متلألئ، لقد أصبحت كل اليراعات في الغابة تومض بشكلٍ متزامن.


اقرأ أيضاً: كيف تكيّفت الطيور الإفريقية مع موجات الحر غير المسبوقة؟

تجتمع حشرات اليراع بأعداد كبيرة في حدث تزاوج سريع، وتمثل الومضات حوار مغازلة بين الذكور والإناث. يخلق تفاعل المنافسة والاستجابة الضوئيان بين آلاف اليراعات أنماطاً ضوئية جماعية متناغمة، على غرار تناغم أسراب الطيور عندما تتحرك أفرادها معاً بشكلٍ متزامن. لقد حيرت ظاهرة الوميض المتزامن الغامضة لليراعات العلماء لأكثر من قرن من الزمن.

التزامن موجود في كل مكان في الكون، من السحب الإلكترونية إلى الدورات البيولوجية والمدارات الكوكبية، لكن التزامن مفهوم معقد له العديد من التشعبات، ويتضمن أشكالاً ومظاهر مختلفة تشرحها الرياضات، وتُكتشف لاحقاً في الطبيعة.

لننظر إلى سرب اليراع، إذا انتظرت لفترة أطول قليلاً، سيظهر شيء آخر غريب وسط جوقة الحشرات الوامضة، فبعض اليراعات تشذ عن الإيقاع الكلي للوميض وتستمر في ذلك. وتومض بنفس الوتيرة، لكنها تحافظ على تأخير محدد عن بقية أقرانها التي لا تزال ملتزمة مع الإيقاع. هل يمكن أن يكون ذلك دليلاً على ظاهرة تنبأت بها المعادلات الرياضية ولكن لم تتم ملاحظتها في الطبيعة من قبل؟

اقرأ أيضاً: شاهد صور بعض أجمل الطيور في العالم أثناء طيرانها

التزامن غير الكامل

قبل 20 عاماً، أثناء التعمق في المعادلات التي تشكل إطار التزامن، لاحظ الفيزيائيان دورجسورين باتوغتوخ ويوشيكي كوراموتو شيئاً غريباً. في ظل ظروف محددة، تصف حلولهم الرياضية مجموعة متباينة تُظهر تزامناً على نطاق واسع يتخلله بعض الفئات العشوائية التي تنأى بنفسها عن المجموعة.

استند نموذج الفيزيائيين بمجموعة من المحددات الزمنية المجردة التي تُسمى "المُذبذبات"، والتي تميل إلى التوافق مع جيرانها. كانت الحالة غير المنتظمة مفاجئة، لأن المعادلات افترضت أن جميع المذبذبات متطابقة تماماً ومرتبطة بالأخرى بنفس الطريقة.

الانقطاع التلقائي للتناظر الأساسي هو شيء يزعج الفيزيائيين عادة. نحن نؤيد فكرة أن بعض الترتيب في بنية النظام يجب أن ينعكس بترتيب مماثل في دينامياته واسعة النطاق. فإذا كانت المذبذبات غير قابلة للتمييز، فيجب إما أن تكون جميعها متزامنة، وإما أن تظل جميعها فوضوية، أي يجب ألا تُظهر سلوكيات متباينة.

أثار هذا الأمر فضول الكثيرين، بمن فيهم عالما الرياضيات دانيال أبرامز وستيفن ستروغاتز، اللذان أطلقا على هذه الظاهرة اسم "الخيمر" (Chímaira). حسب الأساطير اليونانية، كان الخيمر وحشاً هجيناً مكوناً من أجزاء غير متجانسة من الحيوانات، وبالتالي يرى هذان العالمان أن هذه التسمية مناسبة لمزيج من مجموعات من المذبذبات غير المتطابقة.

اقرأ أيضاً: أسرار جديدة عن الطيور المائية تكشفها هجرة ملحمية قام بها طائرا بط

كان الخيمر نادراً جداً في النماذج الرياضية سابقاً، لأن تحقيقه لا يمكن أن يتم إلا من خلال مجموعة محددة من المعلمات. ولكن المنظرون بدؤوا باكتشافه في العديد من أشكال هذه النماذج بمرور الوقت، وأطلقوا عليها أسماء مثل "المتنفس" و"الشاذ" و"متعدد الرؤوس" وغيرها من الصفات الغريبة. ومع ذلك، لم يُعرف ما إذا كان هذه الخيمرات النظرية ممكنة أيضاً في العالم المادي أم تبقى مجرد أسطورة رياضية.

بعد عقد من الزمن، أدت بعض التجارب البارعة التي أُجريت في مختبرات الفيزياء إلى ظهور خيمرات محيرة، حيث تضمنت هذه التجارب شبكات مضبوطة بدقة من التفاعلات بين مذبذبات متطورة. على الرغم من أن هذه التجارب أثبتت أن هندسة التعايش بين الارتباط وعدم الترابط كانت صعبة التحقيق ولكنها ممكنة، وتركت السؤال الأعمق دون إجابة: هل يمكن أن توجد الخيمرات الرياضية في العالم الطبيعي؟

اتضح أن الأمر لم يتطلب سوى حشرة مضيئة صغيرة لتسليط الضوء على الخيمر في الطبيعة.

الخيمر وسط جوقة اليراعات الوامضة

بصفتي باحثاً في مرحلة ما بعد الدكتوراة في مختبر بيليج بجامعة كولورادو، كنت أعمل على اكتشاف الآليات الخفية التي تتفاعل من خلالها أسراب اليراع. يعتمد نهجنا على أساسيات مجال غير معروف في الفيزياء الحديثة يُدعى السلوك الجماعي للحيوانات. كان هدفنا ببساطة الكشف عن أنماط تلقائية غير ملحوظة وواسعة النطاق، وتوصيفها في ديناميكيات مجموعات الحيوانات. ثم ندرس كيفية ظهور هذه الأنماط تلقائية التنظيم اعتماداً على التفاعلات الفردية.

بناءً على نصيحة خبراء حشرة اليراع المخضرمين، سافرت أنا وزملائي عبر الولايات المتحدة الأميركية إلى متنزه كنغري الوطني في ولاية كارولاينا الجنوبية لدراسة حشرات "فوتوريس فرونتاليس" (Photuris frontalis)؛ وهي إحدى أنواع اليراع القليلة المعروفة في أميركا الشمالية بالسلوكيات المتزامنة. نصبنا كاميراتنا في غابة صغيرة بين أشجار اللولوبي الصنوبرية، وبعد فترة وجيزة من ظهور الومضات الأولى مع حلول الشفق، لاحظنا تزامناً إيقاعياً ودقيقاً جداً، ويبدو أنه مثالي كما تنبأت به المعادلات الرياضية.

لقد كانت تجربة ساحرة، لكنها دفعتني للتفكير ملياً في الأمر أيضاً. كنت قلقاً من أن هذا المشهد كان منتظماً جداً إلى درجة لا يمكننا استنتاج أي شيء منه. في الواقع، يتعلم الفيزيائيون حول الأشياء من خلال النظر إلى تقلباتها واختلافاتها في الطبيعة، وفي هذا المشهد، لم يكن هناك الكثير من التباين والاختلاف لدراسته.

اقرأ أيضاً: الحقائق العلمية وراء آليات الثقب التي تستخدمها الحيوانات اللاسعة واللادغة

يتجلى التزامن في البيانات على شكل ارتفاعات حادة (قمم) في الرسم البياني لعدد الومضات بمرور الوقت، وتشير هذه القمم إلى أن معظم الومضات تحدث في نفس اللحظة. عندما لا يحدث ذلك، تبدو المنحنيات غير منتظمة، أشبه بالخربشات التي لا معنى لها. في مخططاتنا، كل ما رأيته في البداية كان نمط تزامن خالياً من الانحرافات لا تشوبه شائبة.

ولكن تبين أن الخيمر كان مختبئاً على مرأى الجميع، ولكن كان يتعين عليّ أن أستمر في البحث في البيانات لاكتشافه. في المخطط البياني، بين القمم التي تعبّر عن ومضات جوقة اليراعات، وجدت بعض القمم الأقصر التي تشير إلى مجموعة صغيرة متزامنة فيما بينها، ولكنها لا تتزامن مع المجموعة الرئيسية، وقد دعوت أفراد هذه المجموعة "الشخصيات". شكّلت هذه الشخصيات الشاذة، إلى جانب الجوقة المتزامنة، الخيمر.

على غرار المسرح اليوناني القديم، تجلس الجوقة في الخلفية بينما تخلق الشخصيات الفعل. في اليراع، تتداخل المجموعتان وتتحركان على نفس المسرح، كما أثبتنا من خلال إعادة البناء الثلاثية الأبعاد لسرب اليراع. على الرغم من انفصال إيقاعها، يبدو أنه من غير الممكن تمييز ديناميكياتها المكانية، حيث لم يبدُ أن الشخصيات تتجمع أو تتبع بعضها بعضاً.

اقرأ أيضاً: شاهد هذه الخريطة التفاعلية التي تنقل تفاصيل مذهلة لهجرة الطيور

يثير هذا التنظيم الذاتي المختلط الذي لم يكن متوقعاً المزيد من الأسئلة. هل تختار الشخصيات في السرب بوعي الانفصال، ربما للإشارة إلى تحررها؟ أم أنها تشذ بنفسها بشكل عفوي عن الإيقاع الكلي؟ هل يمكن للرؤى الرياضية أن تكشف عن دور الديناميكيات الاجتماعية في مجتمع هذه الخنافس المضيئة؟

على عكس المذبذبات المجردة في المعادلات الرياضية، فإن اليراعات كائنات معرفية، حيث تقوم بدمج المعلومات الحسية المعقدة ومعالجتها من خلال سلسلة صنع القرار، وهي في حالة حركة مستمرة، تشكّل وتقطع الروابط المرئية مع أقرانها، والنماذج الرياضية البسيطة غير قادرة على التقاط هذه التعقيدات.

في الغابة الهادئة، ربما كشفت الومضات المتزامنة ونظيراتها المتنافرة عن كنز دفين من الخيمرات الجديدة لعلماء الرياضيات لدراستها.

المحتوى محمي