في حكايةٍ تحذيريةٍ للعلماء في جميع أنحاء العالم، قدّم الباحثون في فنلندا نوعاً جديداً من اليرقات إلى جزيرة سوتوغا في فنلندا عام 1992، ولكن عن غير قصد، انتهى بهم المطاف في إطلاق ثلاثة أنواعٍ مختلفة، اثنان منها طفيليان. وهو ما يمكن تشبيهه بلعبة "الماتريوشكا" الروسية؛ وهي عبارة عن مجموعة من الدمى ذات أحجامٍ متناقصة توضع بداخل بعضها البعض واحدةً تلو الأخرى.
انحراف غير متوقع في دراسة اليرقات
كان الباحثون يأملون في دراسة تلك اليرقات عندما ظهرت لأول مرة في فراشات "جلانفيل الفريتية" (Glanville Fritillary) الجميلة، لكن ما كان غير معروف للباحثين، هو وجود دبابير طفيلية تسمى "هايبوسوتر هورتيكولا" (Hyposoter Horticola) كامنةً داخل اليرقات، والتي تأكل محتويات جسم اليرقة، وتنفجر من بطنها وتصنع لنفسها شرنقتها الخاصة.
لكن ذلك لم يكن النهاية، ففي تحولٍ مرعبٍ للأحداث، كانت هذه الطفيليات في الواقع مصابةً بأنواع أخرى من الدبابير الصغيرة مفرطة السمّية؛ والتي تسمى "ميسكوروس سي إف. ستيغماتيكوس" (Mesochorus cf. Stigmaticus) التي تقتل الدبابير الكبيرة الحاضنة وتظهر بعد 10 أيام من جثة اليرقة الميتة.
وكان الضيف الثالث والأخير غير المقصود الذي يعيش داخل اليرقات عبارة عن بكتيريا وحيدة الخلية، تُعرف باسم "البكتيريا الولبخيّة" (Wolbachia Pipientis)، والتي تحملها إناث الدبابير الطفيلية الأكبر حجماً وتجعلها أكثر عرضةً للإصابة بالطفيليات الأصغر منها.
توجد البكتيريا الولبخية في الحشرات في جميع أنحاء العالم (في 40% على الأقل من جميع الأنواع) ولكن إذا تم إدخالها عن طريق الخطأ إلى مجموعاتٍ غير مصابة، فقد تقلل من نجاح تكاثر الأنواع التي يحاول دعاة الحفاظ على البيئة مساعدتها.
الآن بعد مرور ثلاثة عقود على إدخالهم العرضي ذاك، لا تزال جميع الأنواع الأربعة بطريقةٍ ما على قيد الحياة في جزيرة سوتونغا، في أرخبيل أولاند المتمتع بالحكم الذاتي، حيث اللغة السويدية هي اللغة الرسمية هناك.
كيف تمكن الدبور الطفيلي من النجاة؟
في دراسةٍ جديدةٍ نُشرت في مجلة "البيولوجيا الجزيئية" (Molecular Biology)، قام العلماء في جامعة هلسنكي الفنلندية بتحليل التغيرات الجينية في الدبور الطفيلي الأكبر لتتبع انتشارها التاريخي وتطورها عبر الأرخبيل الواقع في بحر البلطيق بعد إطلاقها عرضياً في جزيرة سوتونغا.
باستخدام 323 عينة تم جمعها في خمسة مواقع مختلفة في أرخبيل أولاند بين عامي 1992 و2013، وجدوا أن الدبابير الطفيلية في سوتونغا تمكنت من البقاء على قيد الحياة على الرغم من معاناة مضيفيها من الفراشات من التناقص الدراماتيكي في أعداد أفرادها بسبب الجفاف أولاً، ونتيجةً لتغير المناخ ثانياً.
إذ أظهر مسح سنوي للفراشات في ذات الجزيرة أنها على وشك الانقراض. وعلى الرغم من أن هناك الكثير من فراشات جلانفيل الفريتية التي تعيش في الجزر المجاورة، مع مسافة طيران قصوى تبلغ نحو 7 كيلومترات، لم تتمكن فراشات سوتونغا من الوصول إليها للتكاثر وتعزيز أعدادها المتناقصة.
لكن الدراسة الجديدة تشير إلى أن طفيليات الدبابير تمكنت من التغلب على هذه العقبات في مجموعاتها المضيفة عن طريق الطيران أو ركوب رياحٍ قوية إلى جزر لم تبلغها سابقاً في أرخبيل أولاند وإصابة الفراشات التي تعيش هناك. ووجدت الدراسة أن تلك الدبابير التي سافرت من سوتونغا بعد إطلاقها العرضي في الجزر المجاورة حيث كان الدبور الطفيلي موجوداً بالفعل، هي من ستحافظ على نوعها من الانقراض.
لكن في غضون ذلك، قال الباحثون إن الدبور الطفيلي ليس مزدهراً تماماً رغم ذلك، وقد لجأ إلى التكاثر مع أقربائه لضمان استمراره ولا يزال غائباً عن بعض الجزر في أرخبيل أولاند.
ومع الإدخال العرضي للأنواع التي أتاحت "فرصةً فريدةً" للازدهار، قال أحد الباحثين، الدكتور أبيلاش ناير، إن الدراسة استخلصت "رؤىً مثيرةً حول بيئة المضيف والطفيليات". لكن الدكتورة آن دوبلوي، المؤلفة الرئيسية للدراسة، اقترحت أيضاً أن الدراسة يمكن أن تكون بمثابة تحذير لأولئك الذين يخططون لإعادة إدخال الأنواع المهددة بالانقراض في النظام البيئي مجدداً.
قالت الدكتورة دوبلوي لصحيفة الغارديان: "تأتي إعادة إدخال الأنواع المهددة بالانقراض من القلب وعن حُسن نية، لكن لدينا الكثير لنتعلمه عن الأنواع التي نعيد إدخالها والموطن الذي نريد إعادة إدخالها فيه قبل أن نفعل ذلك".