يمكن لبعض الرخويات البحرية العيش بدون أجسادها. اكتشف العلماء مؤخراً أن هناك بعض الرخويات البحرية التي تمتلك قدرةً مذهلة؛ حيث يمكنها العيش لأشهر بعد قيامها بفصل رأسها عن جسمها، وتستمر هذه الرؤوس المنفصلة في التحرّك ذاتياً، ويمكنها النمو مجدداً وتشكيل أجسامٍ جديدة كلياً.
لا يعرف العلماء على وجه الدقة كيف تقوم هذه الرخويات أو البزّاقات بفعل ذلك، ولكن هناك نوعان منها من مجموعةٍ تُعرف باسم «بزّاقات البحر المصاصة» (الاسم العلمي: Sacoglossa)، تستطيع القيام بذلك. ولكن العلماء يشتبهون في أن هذه الرخويات تعتمد على طاقة التمثيل الضوئي التي تنتجها خلايا الطحالب التي تعيش في جسمها للقيام بهذا العمل المذهل.
قدرة «كليبْتوبلاستي» المذهلة
تُعرف هذه القدرة باسم «كليبْتوبلاستي»؛ وهي ظاهرة تعايشٍ تكافلي يقوم خلالها الحيوان بعملية أقرب إلى سرقة البلاستيدات الخضراء (يلتهما) -والتي تقوم أساساً بعملية التركيب الضوئي- من النباتات المائية، والاستفادة من طاقة التركيب الضوئي التي تنتجها، ولا تُعتبر الرخويات البحرية هي الكائنات البحرية الوحيدة التي توجد فيها هذه الظاهرة؛ إذ تمتلك العديد من أشكال الحياة الأخرى هذه القدرة أيضاً.
تقو «هولي مولر»؛ عالمة الأحياء بجامعة كاليفورنيا في سانتا باربرا: «تستمر البلاستيدات التي يلتهمها الحيوان بعملية التركيب الضوئي وتزوّده بالطاقة؛ بالتالي توفّر له موارد غذائية تكفي لحياةٍ ثانية كاملة». ما يحدث تحديداً هو أن هذه الرخويات تقوم بالتهام الطحالب وامتصاص الأجزاء الداخلية من خلاياها، ومن ثم تستخلص البلاستيدات منها وتدمجها في خلاياها الهضمية؛ بذلك تستطيع الرخويات استغلالها وتحويل ضوء الشمس إلى طاقةٍ داخل جسمها.
قد تبدو عملية «كليبْتوبلاستي» بمثابة عصاً سحريةٍ لبقاء هذه الرخويات على قيد الحياة، لكن العلماء غير متأكدين من ذلك تماماً؛ فربما لا تمنح البلاستيدات الطاقة الكافية لتحلّ محل تناول الطعام، ولكن وجودها أشبه بخطّةٍ احتياطية تلجأ إليها هذه الرخويات للحصول على الطاقة إذا فُصل رأسها عن جسمها، أو في حالة نُدرة الموارد الغذائية.
في الواقع، تُعتبر ظاهرة كليبْتوبلاستي نادرةً جداً في الحيوانات، ولوقت طويل، بقِي هذا النوع من الرخويات هو النوع الوحيد من الكائنات الحية الذي يعرف العلماء أن لديه هذه القدرة، إلى أن اكتشف العلماء عام 2019 هذه القدرة لدى جنسٍ من الديدان المفلطحة يُدعى «رابدوكويلا».
وفقًا لـ «نيلز فان ستينكيست»؛ عالم الأحياء بجامعة كولومبيا البريطانية، فإن العلماء كانوا يعرفون منذ عقودٍ من الزمن بوجود بعض الديدان من جنس «ربدوسيلس» التي تعيش في المياه العذبة وتحافظ على الطحالب حيّةً داخل أجسامها؛ وهو أمرٌ شائعٌ في بعض الحيوانات الأخرى؛ مثل الشعاب المرجانية والإسفنج، كما اكتشف العلماء أيضاً وجود البلاستيدات الخضراء في أجسام عدّة أنواع بحرية من جنس «ربدوسيلس».
قرر فان ستينكيست وزملاؤه التحقق من أحد هذه الأنواع عن كثب لمعرفة ما إذا كانت تحتوي أيضاً على خلايا طحلبية كاملة أم لا، واكتشفوا من خلال استخدام مجاهر عالية التكبير وتقنية التسلسل الجيني، أن هذه الديدان قد «استولت» على البلاستيدات الخضراء فقط من الطحالب بدلاً من ذلك، وأصبحت جزءاً منها.
من غير المعروف على وجه الدقة كيف تمكنت ديدان «ربدوسيلس» من اختراق خلايا الطحالب والسطو على البلاستيدات واستخلاصها، أو ما إذا كانت الديدان المفلطحة انتقائيةً فيما تتغذّى عليه، وما يزال كلا السؤالين مطروحين للبحث. يقول فان ستينكيست: «نريد معرفة ما إذا كانت هذه الديدان تتغذّى على أنواعٍ معينة فقط، أم يمكن أن تتغذى على أنواعٍ غير محددة».
هذا الاكتشاف لا يعني أن قدرة كليبْتوبلاستي شائعة في الحيوانات؛ إذ يشير فان ستينكيست وزملاؤه أنهم لم يجدوا هذه القدرة إلا في نوعين من ديدان الـ «ربدوسيلس» حتى الآن، ولكنهم يعتقدون أن هناك 16 نوعاً آخر على الأقل يُحتمل وجود هذه الظاهرة لديهم. مع ذلك، لا يمثّل هذا العدد سوى جزءٍ صغير من أنواع جنس «ربدوسيلس»؛ التي يصل عددها إلى 1800 نوعاً معروفاً.
في الحقيقة، ما يزال هناك الكثير من أسرار حياة الكائنات غير المكتشفة بعد؛ فربما نكتشف المزيد من الحيوانات التي تمتلك قدرة كليبْتوبلاستي. يقول فان ستينكيست في هذا الصدد: «لا أستبعد اكتشاف المزيد من الحيوانات التي تتمتع بهذه القدرة في المستقبل».
مخلوقات خارج مملكة الحيوانات
ولكن إذا نظرنا خارج مملكة الحيوانات، فسنجد العديد من المخلوقات التي تمتع بهذه القدرة؛ حيث تقول مولر: «هناك مجموعةٌ كاملة من الطلائعيات تستطيع القيام بذلك». الطلائعيات هي كائنات وحيدة الخلية يمكن للعديد منها امتصاص البلاستيدات الخضراء من الطحالب الأصغر منها بطرقٍ مختلفة؛ فبعضها يحتفظ بالبلاستيدات الخضراء داخل أجسامها الشفافة؛ مما يسمح لها بالاستمرار بإنتاج الطاقة، بينما يذهب بعضها أبعد من ذلك بالاستيلاء على نواة الخلية الطحلبية السليمة، واستخدام تعليماتها الجينية لحثّ البلاستيدات الخضراء على العمل.
تقول مولر: «يبدو الأمر كما لو أحدهم سرق سيارة، ثم سرق أوراق مالك السيارة أيضاً حتى يتمكن من إصلاحها، وصيانتها ومواصلة قيادتها».
يعتقد العديد من العلماء -قبل تطوّر النباتات على الأرض قبل ملياري عام- أن البلاستيدات الخضراء بجانب أجزاء الخلية الأخرى؛ مثل الميتوكوندريا (المصورات الحيوية)، كانت متعضيات حيةً تعيش بشكلٍ مستقل إلى أن تم دمجها و«تدجينها» في وحيدات الخلايا (الطلائعيات) الأكبر حجماً. يقول مولر في هذا الصدد: «إذا نظرت إلى جميع الكائنات الحية التي تقوم بعملية التمثيل الضوئي، ستجد أن البلاستيدات الخضراء قد انتقلت بالفعل خلال عملية التطوّر عبر الأنواع».
من غير المعروف حتى الآن كيف حدث ذلك بالضبط، وكيف اكتسبت أشكال الحياة المختلفة القدرة على تحويل الضوء إلى طاقة، لكن الطلائعيات أو الحيوانات التي «تسرق» البلاستيدات الخضراء من الطحالب قادرةٌ على القيام بذلك تماماً.
هذا المقال محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً