تتمتع سمكة الكهف المكسيكية العمياء بميزة ستجعلك تحسدها: لا تحتاج هذه السمكة كي تعيش وتزدهر إلا لساعتي نوم فقط كل ليلة، لا أكثر ولا أقل من ذلك. تصوّر كل ما ستفعله في تلك الساعات الستة الإضافية التي كنت تقضيها في النوم.
ومن بين جميع الحيوانات التي تحتاج إلى النوم للبقاء على قيد الحياة، تختلف الأنواع فيما بينها كثيراً في أنماط نومها وسلوكياته. ويوجد البشر في نقطة ما في الوسط تقريباً بين مجموعة الأنماط هذه، حيث يحتاج البالغون منهم ثمان ساعات كاملة حسب أحدث الدراسات العلمية. ونجد في الطرف الأقصى من هذه المجموعة الخفاش البني، الذي ينام لحوالي العشرين ساعة يومياً، والمدرع العملاق وأفعى البايثون حيث ينام كلاهما ثمانية عشرة ساعة يومياً. وفي الطرف الآخر لدينا بعض أنواع الكائنات التي تسكن الكهوف، بما فيها سمكة الكهف المكسيكية، التي تعيش سليمة متمتعة بالصحة مع أنها لا تنام إلا حوالي ساعتين كل 24 ساعة.
"أعتقد أننا نستطيع الاستفادة من سمك الكهف لطرح الأسئلة الجوهرية حول لماذا ننام؟ ولماذا هناك الكثير من التباين في أنماط النوم وفتراته في المملكة الحيوانية" يقول ألكس كين، المؤلف الرئيسي لهذه الدراسة العلمية وعالم الأعصاب في جامعة فلوريدا الأطلسية. ويضيف "إن استطعنا فهم كيف تتدبر هذه الأسماك أمرها مع أنها لا تنام إلا قليلاً، فقد نتمكن من إيجاد طرق نوم أفضل للبشر".
حيّر نوع أستياناكس مكسيكانوس العلماء والباحثين لأكثر من قرن من الزمن. يوجد من هذا النوع فئتين مختلفين جداً عن بعضهما: فئة سطحية، وتعرف بأسماك السطح، وتعيش في الأنهار، وفئة أخرى من الأسماك تعيش في الكهوف، وتعرف بأسماك الكهف، حيث لا يصل ضوء الشمس هناك. وفي حين طورت فئة أسماك الكهف ميزة قلة النوم هذه لم تفعل فئة أسماك السطح ذلك. تنام أسماك السطح بشكل عادي كما ينام الأسماك ولمدة ثمان ساعات كاملة كل ليلة. كما أن هذين الفئتين مختلفتان في الشكل أيضاً. لا تملك الفئة التي تعيش الكهوف إلا عيوناً صغيرة جداً وأحيانا لا تملكها أساساً، وليس لديها إلا صبغات لونية قليلة جداً على أجسادها، مع العلم أن العين والصبغة اللونية تساهمان في تنظيم أنماط النوم.
أما الأمر الذي يحيّر الباحثين والعلماء فهو ميزتان تتمتع بهما فئة الأسماك التي تعيش في الكهوف. أولها قدرة هذه الأسماك -التي تعيش لحوالي 30 سنة في المختبر- على النوم لساعتين فقط لا أكثر كل 24 ساعة، وثانيها هو عدم معاناتها من أي عواقب صحية بسبب ذلك.
وفي دراسة علمية نُشرت هذا الأسبوع في مجلة إي لايف، ضيق الباحثون مجال البحث وركزوه على ببتيد عصبي يدعى الهيبوكريتين أو اختصاراً HCRT ويوجد هذا البروتين في منطقة الوِطاء (من الدماغ) في العديد من الحيوانات بما فيها البشر. ووجوده هناك منطقي تماماً. يعدّ الوطاء قطعة صغيرة من الدماغ نجده لدى العديد من الحيوانات وهو المسؤول عن القيام بوظائف لا نملك إلا تحكماً ضئيلاً بها، مثل حرارة الجسد والعطش والجوع والنوم. للأسف لم يدرس العلماء الهيبوكريتين إلا قليلاً ومعظم دراساتهم أجريت على النوم القهري وهو اضطراب نوم يميل فيه المصاب إلى النوم أثناء أي وضع مريح. وقد وجدت الدراسات السابقة أن الكلاب المصابة بالنوم القهري لديها طفرات في المستقبِل الخلوي للهيبوكريتين، وهناك دراسات مماثلة تشير إلى أن الهيبوكريتين له دور في حالات النوم القهري لدى البشر كذلك، كما أن الهيبوكريتين يؤدي دوراً أيضاً في تنظيم النوم لدى الذباب وسمك الدانيو المخطط.
وفي هذه الدراسة الجديدة قارن الباحثون عدد بروتينات الهيبوكريتين في سمك الكهف المكسيكي بعددها في نظيراتها أسماك السطح. ووجدوا أن كائنات الكهوف المظلمة لديها عدد ببتيدات عصبية أكبر بكثير من عددها لدى أسماك السطح التي تتمتع بضوء الشمس. كما أن أسماك الكهف العمياء لديها كذلك عدد أكبر من مستقبلات الهيبوكريتين على خلاياها. ولكي نفهم حقاً ما هو دور الهيبوكريتين، قام الباحثون بإعطاء كلا الفئتين (أسماك السطح والكهف) مواد معينة خاصة تمنع الهيبوكريتين من الارتباط بمستقبِلاته الخلوية.
بالنسبة لأسماك الكهف، أثرت فيها المواد كما يفعل دواء ناي كويل (NyQuil) بالبشر، حيث جعلتها تخلد للنوم في غفوة هادئة. أما بالنسبة لأبناء عمومتها من أسماك السطح فلم يكن لهذه المواد أي تأثير يذكر عليها. أتاحت هذه التجربة للباحثين فهم أمرين لم نكن نعرفهما من قبل: هناك اختلافات عصبية ووراثية ساهمت في تطور نمط النوم؛ والأمر الثاني هو إمكانية تغيير هذه الاختلافات باستخدام عقارات خاصة لحث سلوكيات معينة في النوم أو تعديلها.
ويقول كين "أعتقد أن الهيبوكريتين أحد العوامل فقط، ومن المرجح أن الحيوانات لديها العديد من جينات النوم التي لا نعرفها حتى الآن، حيث تساهم هذه الجينات في قلة النوم التي نراها لدى أسماك الكهف".
ما الذي يعنيه هذا بالنسبة لبقية الحيوانات التي تنام كثيراً؟ إن هذا يعني من أحد الجوانب أن هناك على الأقل طريقة واحدة (ولربما هناك العديد غيرها) تتيح للحيوانات أن تحرم نفسها من النوم دون أن تعاني أي أضرار صحية بسبب ذلك. بالنسبة للبشر، هناك ما يكفي من الأدلة العلمية على أن النوم، وأخذ قسط مناسب منه، عنصر حيوي للحفاظ على صحة سليمة وتجنب الأمراض. وتظهر البحوث العلمية التي درست آثار قلة النوم أنه يتسبب على المدى القصير والطويل بارتفاع ضغط الدم وتخفيض مستوى السكر وزيادة الالتهابات عموماً. وجميع هذه الأمور تؤثر تأثيراً مباشراً على إمكانية الفرد للإصابة بالأمراض مثل السمنة والسرطان وداء السكري وأمراض القلب.
ولسوء الحظ لسنا مثل أسماك الكهف، لم نطور نحن البشر أي آليات تتيح لنا البقاء مستيقظين طوال الليل والتحضير لامتحان مهم مثلاً دون أن ندفع الثمن في وقت لاحق. لكن أصدقائنا الصغار من ساكني الكهوف هؤلاء قد يمنحوننا الأمل.
يقول كين "هناك عدد كبير من الأدوية التي تساعد البشر على النوم أو تبقيهم مستيقظين" ويضيف "لكن المثير حقاً هو أن أسماك الكهف تبدو صحيحة وسليمة على الرغم من فترة النوم القصيرة جداً التي تأخذها. وإذا تمكنا من فهم السبب وراء ذلك، فمن الممكن أن نطور أدوية منشطة جديدة دون المعاناة من الآثار السلبية التي تتراكم عادة جراء قلة النوم".
على أية حال يقول كين أنه لا يزال أمامنا عمل يتعين القيام به. إن مجموعة أسماك الكهف التي يدرسها فئة واحدة فقط من 29 فئة مستقلة من أسماك الكهف. يريد كين أن يعرف ما إذا كانت هذه الفئات الأخرى من أسماك الكهف قد طورت آليات وراثية مختلفة تتيح لهم أن يعيشوا حياة صحية مع فترة قصيرة من النوم أو بدونها تماماً. كما يريد أن يفهم أيضاً ما هي الأدوار الأخرى التي يؤديها الهيبوكريتين؛ لأن هناك دليلاً علمياً على أنه يحفز على تناول الطعام لدى الأسماك وأنواع أخرى من الثدييات، وقد وجد كين وفريقه من قبل أن الجوع الطويل يزيد من فترات النوم لدى أسماك الكهف العمياء على الرغم من أنه ليس له أي تأثير على نوم أسماك السطح. إن فهم كيفية تأثير تناول الطعام على النوم في هذه الأسماك وغيرها من الحيوانات قد يوفر لنا صورة أوضح وأكمل عن كيفية تنظيم النوم، وكيف نستطيع أن نعدل هذا النمط دون أن نعاني من أي ضرر.
وحتى يكتشف العلماء ذلك، فإن أفضل شيء نستطيع القيام به هو النوم لثماني ساعات كاملة كل ليلة، وتأكد عزيزي القارئ، لا شيء أفضل من ذلك لصحتك.