إن فقدان حبيب أو حتى زوج أو اثنين خلال الحياة يمكن أن يكون أمراً مزعجاً. لكن فقدان الأسنان هو كارثة.
من كتاب القليل من الموسيقى الليلية، هيو وييلر، 1974
مقتطف مقتبس من كتاب «ذوات الجناحين من الداخل إلى الخارج» تأليف «إريكا مكالستر»، بإذن من فايرفلاي بوكس المحدودة.
إن أجزاء الفم عند ذوات الجناحين (وهي رتبة من طائفة الحشرات) مذهلة ومتنوعة كالطعام الذي تتغذى عليه. وهذا ليس مقارنة بين الأنواع المختلفة من هذه الرتبة فحسب، ولكن أيضاً عبر مراحل حياة هذه الحشرات. تملك كل الحشرات اليرقية أجزاءً فموية، على الرغم من أن بعضها بسيط للغاية بنيوياً، وتكيّف لمضع أو امتصاص الطعام سواء كان نباتاً أو لحوماً.
إحدى المجموعات التي تتغذى على اللحوم تنتمي إلى جنس يدعى «فيلورنس»، واسمها عائلة «ذباب المنزل» توجد في الأميركيتين، من فلوريدا إلى الأرجنتين. كل الأنواع الـ 50 في هذا الجنس لها يرقات تعتمد في غذائها على الطيور. حتى اللحظة، من المعروف أن هذه الأنواع تتطفل على أكثر من 150 نوع من الطيور، من الصقور إلى الطيور الطنّانة.
للأنواع المختلفة يرقات تتغذى إما على براز الطيور أو دماء الأفراخ، وأحياناً الطيور البالغة. تعلّق نفسها أحياناً على الجزء الخارجي من أجسام الطيور، وأحياناً أخرى تخترق جلودها وتتغذى على الدماء والأنسجة. الأفراد البالغون من هذه الأنواع ليسوا عدائيين لهذه الدرجة، إذ يعيشون طليقين يتغذون على المواد المتحللة. جذب أحد هذه الأنواع الكثير من الانتباه، إذ أنه يتطفل على مجموعة مشهورة إلى حد ما من الطيور. من 20 سنة، ظهر نوع «فيلورنس داونزي» في جزر «غالاباغوس»، وبدأ بالتغذي على مجموعة طيور الجواثم التي تدعى «عصافير دارون».
هذه قصة حزينة للطيور، لكنها مثال جيد لإظهار الفرق في حميات الحشرات اليرقية على اختلاف مراحل حياتها. الأجزاء الفموية للأفراد البالغة مختلفة جداً عن نظيراتها اليرقيّة، إذ أنها تكيّفت لمص الطعام السائل، مما منحها أفضلية مفيدة. تتبع الأنواع ناقصة الانسلاخ، وبعض الأنواع كاملة الانسلاخ مثل نحل العسل، نفس الحمية عبر مراحل حياتها. تجمع نحلات العسل الرحيق والطلع وتتغذى كلها عليها، حتى النحلات غير مكتملة النمو. أي تغيير في نوعية أو كمية الغذاء يؤثر على كل الأجيال التالية. ومن غير المألوف أن بالنسبة لذوات الجناحين أن يعيش الأفراد البالغون واليرقات في بيئات مختلفة جداً، وأن يتغذوا على أطعمة مختلفة للغاية.
تكيفت شفاه ذوات الجناحين البالغة في شكلين منفصلين من أجل الامتصاص. الأجزاء الفموية التي تكيفت للتغذية المَصيّة تدعى الخراطيم (الأجزاء الماصّة)، وعند رتبة ذوات الجناحين بشكل عام، تأخذ الأجزاء الفموية شكلين فقط: إما شكل إبرة مرنة مُختَرِقة، ويدعى هذا الشكل بالشكل المخرازي (الذي نراه في البعوض)، أو شكل فم مترهل رخو يشبه المجس يدعى الشُفيّة (الذي نراه في ذباب المنزل).
تطور أنابيب التغذية معروف على نطاق واسع بين المُلقّحات، ولكن ربما يكون «المصاصون» الأكثر شهرة هم الذين يتغذون على الدم، وهي الأنواع الدامِئة. أشهرها هو البعوض، وتحديداً إناث البعوض. إذ أنها تحتاج الدم لتنمية بيوضها، ولكن ليست كل الإناث مصاصات دماء. مع ذلك، تعتبر الإناث التي تمص الدم من أكثر ناقلات العوامل المُمْرضة للإنسان والحيوانات الأخرى إضراراً، وهي من أكثر الحشرات التي دُرست بشكل جيد. أول شيء تحتاج إناث البعوض فعله هو إيجاد مصدر للطعام. يجب عليها أن تتحسس وجود «محطة للأكل»، وهي عملية تُنجز باستخدام دلائل كيميائية وبصرية وحرارية. أما الروائح فتُلتقط بواسطة المَلامِس، وهي تلك الزوائد الحسية الطويلة المحيطة بفم الحشرة.
إحدى الروائح التي تثير البعوض وبعض الحشرات اللادغة الأخرى هي رائحة ثاني أوكسيد الكربون، ونوع من الكحول يدعى الأوكتينول، أو كحول الفطر (إذ أن الفطر هو أحد الأحياء التي تنتج الأوكتينول بشكلٍ طبيعي). كلنا نعلم أننا نَزفِر ثاني أوكسيد الكربون، لكننا أيضاً ننفث غمامات من الأوكتينول أثناء تنفسنا وتعرّقنا. ومما يثير الاهتمام، وجد العلماء أن البعوض يحب أيضاً رائحة النبيذ، لذلك يمكنك ترك كأس بجانب سريرك لتجذب البعوض إليه (مع إنك ستضطر للتوقف عن التنفس أيضاً، وذلك لحل مشكلة ثاني أوكسيد الكربون...). عندما تقترب أنثى البعوض من هدفها، تبدأ بالانتباه إلى المركبات الأكثر تخفياً التي يفرزها المضيف، مثل أحماض الكربوكسيل (وهي مجموعة واسعة من الأحماض)، مما يجعلها تحدد تماماً الموقع الذي ستهبط وتلدغ فيه.
بعد أن تهبط على الجسم المضيف، تستخدم أنثى البعوض خرطومها لتكشف مواقع أوعية دموية صغيرة رقيقة الجدران تدعى الشعيرات الدموية، والتي تشكل شبكة متصالبة تحت الجلد مباشرة. كُشفت الآلية الدقيقة التي تطبقها الحشرات لتحقيق ما سبق مؤخراً فقط. في 2015، نشر «جي وون جنج» وفريق من الباحثين من جامعة سيول الوطنية مكتشفاتهم حول طريقة استخدام البعوض للخراطيم بهدف تحديد موقع الأوعية الدموية والتغذية دون جلب الانتباه. وكتبوا: «فشل عملية التقصي قد ينبّه الحيوان المضيف إلى وجود البعوض، مما قد يؤدي إلى مخاطر حقيقية، ومنها الموت».
اكتشف الفريق وجود أشعار حسية على الخراطيم، تحتوي على مستقبلات شمية تدعى «أيه أيه أو آر 8»، و«أيه أيه أو آر 49». تُنَشَّط هذه المستقبلات عن طريق مواد كيميائية توجد في مجرى الدم، مما يسمح لأنثى البعوض أن تحدد موقع الدماء بدقة وسرعة.
إن الخراطيم الثاقبة للبعوض -ولعدة أنواع أخرى من رتبة ذوات الجناحين- ليست بنية مفردة، ولكنها تتكون من 6 أجزاء فموية مستطيلة أخرى تدعى المخارز، والتي تكون ملتصقة ببعضها عندما لا تكون قيد الاستخدام. تترتب هذه جنباً إلى جنب مشكلة الحزمة، أو السينتروفيوم، المحضونة بالغلاف الخارجي السميك الذي يدعى الشفاه، وهو الجزء الذي يبرز عندما تخترق البعوضة الجلد، وهو الذي يحمي أجهزتها الحساسة عندما لا تكون قيد الاستخدام، كما يوفر الدعم الجسدي عند استخدامها.
لتحديد موقع مناسب لاختراق جسم المضيف، تهز أنثى البعوض المخارز. تحتوي المنطقة في نهاية الفك العلوي، والتي تدعى الشريحة، على أسنان صغيرة على حوافها تؤدي وظيفة رأس المثقب، تحفر عبر الجلد وتؤدي أيضاً وظيفة دعامة تبقي المخارز ثابتة عند بداية الامتصاص. داخل رأس هذه الحشرة توجد عضلات مُطيلة وومُبعّدة، تسحب وتدفع قاعدة الفكوك العلوية. يسمح وجود هيكل مرن متصل بهذه العضلات بإنجاز حركات سريعة وخارقة. وعند دخول الخرطوم، تفصل هياكل متشبثة أنسجة المضيف عن بعضها بينما يبدأ أكبر المخارز، والذي يدعى الشفا العليا، بسبر المنطقة. تتموضع المستقبلات الشمية سابقة الذكر في نهاية هذا المخرز، وعندما يُكشف موقع الدم، يثقب المخرز الوعاء الدموي ويمص الدماء، بشكل مشابه لما نفعله عندما نحتسي مشروباً باستخدام قشة. للإبقاء على جريان الدم، تُفرز البعوضة اللعاب من البلعوم السفلي، والذي يحتوي على مهدّئ لتخدير الاحساس. تتحسس البعوضة وتثني المخارز تحت البشرة لتجد الأوعية الدموية.
يحتوي رأس البعوض على بنى تساعد هذه الحشرات في امتصاص أكبر كمية ممكنة من الدماء عند انتهاء عملية الثقب. هناك مضختين للامتصاص في رأس أنثى البعوض، تقع الصغيرة في نهاية الخرطوم، والكبيرة في قاعدة العنق، أو المريء. لبدء الامتصاص، تفتح المضخة الأولى لتُخفض الضغط وتسحب الدماء إلى الخرطوم. ثم تفعل المضخة الثانية نفس الشيء، مما يسبب تدفق الدم باتجاه جسم البعوضة.
إن تغذّي هذه الكائنات على الكائن المضيف دون انتباهه هي خدعة صعبة، ولكن تجنّب ذوات الجناحين المفترسة لأذى المضيف هو أمر حاسم. طوّرت الأنواع الدامئة والمفترسة سلاحاً ليساعدهم. من الجيد أن تمتص دماء جندب له ضعفي حجمك (كما يحب المفترس الأشرس، الذباب السارق، أن يفعل)، ولكن التعامل مع أطراف هذا الكائن الطويلة وهي تُرفرف أثناء تناولك للطعام هو أمر صعب. ابتدع الذباب السارق، والعديد من العائلات الأخرى مثل ذباب الخيل، طريقة لشلّ فرائسه، أو أجزاء من أجسام فرائسه قبل أن يبدأ بسحب الطعام منها أو أكلها. العديد من الأنواع ذات الجناحين هي سامة، وبدلاً من أن تحقن سمّها عن طريق أنبوب وضع البيض المعدّل، كما يفعل النحل والدبابير والنمل، فهي تحقنه بطريقة مشابهة لطريقة العناكب.
إن دراسة سموم أنواع الحشرات التي تنتمي لرتبة ذوات الجناحين بطيئة التقدم، وهو أمر مؤسف لأننا نعلم أن هذه الحشرات غير اعتيادية نوعاً ما. وُصفت 10 أنواع جديدة من السموم الخاصة بالذباب السارق، و6 منها تحتوي على بروتينات لا تستخدمها أي كائنات سامة أخرى (النحل، الدبابير، النمل، الثعابين، القواقع، خلد الماء وغيرها). كما سميت هذه السموم العشر باسم «أسيليدين» من 1 إلى 10 (نسباً لاسم عائلة الذباب نفسه). وظيفة هذه السموم هي الشل، ولا يحتوي أيٌ منها على أنزيمات تساعد في هضم الطعام بشكل خارجي، ولكنها تتكون في الغالب من الببتيدات (وهي سلاسل قصيرة من الأحماض الأمينية) وبروتينات أكبر، مما يجعلها تسبب التحلل الفارماكولوجي لأنسجة المضيف. لكن على الرغم من أن هذا قد يبدو فظيعاً بالنسبة للضحية، إلا أن هذه الببتيدات الجديدة تُختبر اليوم لاستخدامها على البشر بهدف علاج الآلام، والأمراض القلبية الوعائية ومرض السكري، إضافة إلى وجود العديد من مجالات البحث الأخرى عليها.
هذا المقال محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً