كيف توجّه الحيوانات مثل الدلافين والخفافيش نفسها باستخدام الصوت؟

كيف توجّه الحيوانات مثل الدلافين والخفافيش نفسها باستخدام الصوت؟
أتقنت الدلافين وخنازير البحر وغيرها من الحيتان المسننة آلية الرصد بالصدى بفضل بنيتها التشريحية الفريدة. ديبوزيت فوتوز
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

تكيّفت أنوع معينة من الكائنات التي تعيش في الأوساط التي لا تحتوي على الضوء، أو التي يكون فيها البصر عديم الفائدة لسبب ما، للازدهار باستخدام أصواتها. تعتمد هذه الكائنات على النداء وأصوات النقر والتغريد لتنشئ نوعاً من الخرائط لمحيطها أو تحدّد مواقع الفرائس، وتحمل هذه القدرة اسم الرصد بالصدى (echolocation)، ويمكنك فهم آلية عملها من خلال تحليل اسمها.

ما هو الرصد بالصدى؟

تخيَّل صوت صدى يحدد موقع جسم ما؛ تصطدم الموجات الصوتية بهذا الجسم وترتد عنه، ناقلةً بعض المعلومات حول موقعه أو الإشارات التي تساعد على التوجّه. كان عالم الحيوان في جامعة هارفارد، دونالد غريفن (Donald Griffin)، يصف اعتماد الخفافيش على الأصوات للطيران عبر الظلام الدامس في الكهوف من دون الاصطدام بالجدران أو النوازل البارزة عندما صاغ تعبير “الرصد بالصدى” في مجلة ساينس (Science) في عام 1944.

اكتشف العلماء في العقود التي تلت ذلك أن هناك العديد من الحيوانات التي تستخدم آلية الرصد بالصدى، التي تحمل أيضاً اسم السونار الحيوي. على سبيل المثال، يستخدم 16 نوعاً من الطيور على الأقل الرصد بالصدى، مثل طيور السمامة وطيور الزيت الليلية، التي تعيش في أعماق كهوف قارة أميركا الجنوبية. تصف خبيرة الصوتيات الحيوانية في جامعة نيو هامبشير، لورا كليبر (Laura Kloepper)، هذه القدرة المشتركة بأنها مثال على ما يدعى بالتطور التقاربي، الذي “يُطوّر ضمنه نوعان غير مرتبطين الاستراتيجية التكيفية نفسها”.

اقرأ أيضاً: ما العامل المشترك بين الخفافيش ومغني موسيقى الميتال؟

كيف تعمل آلية الرصد بالصدى؟

تصدر الحيتان والخفافيش أصواتاً عالية بالموجات فوق الصوتية وبترددات تصل إلى 200 كيلوهرتز للعثور على الأسماك في المياه العميقة وتجنّب الاصطدام بالأجسام الأخرى في الليل. تتجاوز ترددات هذه الأصوات الترددات التي يستطيع البشر سماعها بكثير؛ إذ يعجز معظم البالغين عن سماع الترددات التي تتجاوز 17 كيلوهرتز.

لماذا تصدر الحيوانات التي تستخدم آلية الرصد بالصدى الموجات فوق الصوتية؟ تقول كليبر: “توفّر الأصوات المرتفعة التردد دقة عالية للغاية في تحديد المواقع”. واحدة الهرتز هي مقياس للمسافة بين الموجات الصوتية المتتالية، كلما ارتفع تردد الصوت، أصبحت الموجات أقرب بعضها إلى بعض ويزداد تفصيل الصورة التي ترسمها طاقة الاهتزاز في الهواء. تقول كليبر إنه إذا أصدر كائن ما الموجات فوق الصوتية في غرفة، قد تنعكس الموجات المنخفضة التردد عن الجدران، بينما يمكن أن يحدد الكائن موقع المدخل أو حتى مقبض الباب من صدى الأصوات المرتفعة التردد.

صوت الصدى غني بالمعلومات إذا تمكّنا من تفسيره. تشرح كليبر قائلة إنه عندما يسمع حيوان ما يستخدم آلية الرصد بالصدى صوتاً مرتداً، فهو يقارن هذا الصوت “بقالب داخلي” للصوت الذي أصدره، ويتمكن من خلال المقارنة بين الصدى والإشارة الصوتية الداخلية من استنتاج المسافة التي تفصله عن الجسم الذي ارتد عنه الصوت، والاتجاه الذي يتحرك وفقه وحتى المواد التي يتألف منها.

تفيد النداءات فوق الصوتية الحيوانات مثل الخفافيش بطريقة أخرى؛ إذ إنها تعتمد على الترددات الأعلى للعثور على أفراد يمكن التزاوج معهم. اكتسب العديد من أنواع العث التي تصطادها الخفافيش آذاناً تتحسس هذه الترددات واتخذتها وسيلة للبقاء.

اقرأ أيضاً: تحديد المواقع بالصدى عند الخفاش قد يساعد في فهم اضطراب نقص الانتباه وفرط الحركة

ما هي الحيوانات التي تستخدم آلية الرصد بالصدى؟

تعتبر الخفافيش والحيتان المسننة مثل الدلافين أشهر الحيوانات التي تطبّق آلية الرصد بالصدى. تستطيع الدلافين استشعار الأجسام التي تبعد مسافة تتجاوز 90 متراً، كما أنها تستطيع تمييز إذا ما كانت هذه الأجسام تحتوي على سوائل أم لا. يصل مدى استشعار الخفافيش الأقصى إلى نحو 3.6 أمتار، ولكنها قادرة على تحسس الأجسام في أثناء الطيران عبر الغابات الكثيفة أو ضمن أسراب الخفافيش الضخمة. تستطيع الدلافين والخفافيش ملاحظة الفروق في مواقع الأجسام بارتياب لا يتجاوز سنتيمترين. تطبّق الحيوانات الأخرى طرقها الخاصة لتحديد الموقع بالصوت أيضاً، وهي طرق تتوافق مع ميزاتها واحتياجاتها الخاصة.

الخفافيش

تبيّن الأحافير أن الخفافيش استخدمت الصوت لتوجيه نفسها لما لا يقل عن 52 مليون سنة، وهي فترة أطول من عمر النوع البشري. اليوم، تستطيع مئات الأنواع في هذه المجموعة من الثدييات تطبيق آلية الرصد بالصدى؛ إذ إنها تستخدمها لمطاردة البعوض والعث والفرائس الأخرى. هناك أنواع من الخفافيش الآكلة للحشرات بارعة للغاية في استخدام الرصد بالصدى؛ إذ إنها قادرة على تحديد مواقع الحشرات الساكنة المختبئة على الأوراق في ظلام الليل. لذلك طوّر العديد من الحشرات دفاعات ضد آلية السونار لدى الخفافيش، ويشبّه علماء الأحياء صراع الاستجابات التطورية هذا بسباق التسلّح؛ تنمو ذيول طويلة لدى العثة القمرية قد تؤدي دور أفخاخ عاكسة تربك الخفافيش، وتصدر حشرات أخرى إشارات فوق صوتية تشوّش على الموجات التي تصدرها مفترساتها.

اقرأ أيضاً: أعلى 12 حيواناً صوتاً في العالم

تهزّ الخفافيش عضواً متخصصاً للغاية في أعناقها يحمل اسم الحنجرة لإصدار الموجات فوق الصوتية، ولا تختلف آلية إصدار هذه الموجات عن آلية إصدار الأصوات لدى البشر، بخلاف أن الخفافيش تصدر الأصوات بترددات أعلى بكثير. تطلق أنواع معينة من الخفافيش الأصوات من أفواهها بعد هز الحنجرة، بينما تطلق أنواع أخرى الأصوات من الخطم بالاستفادة من هيكل أنفيّ معقّد يحمل اسم الأنف الورقي.

يساعد الشكل المميز لأنوف خفافيش حدوة الحصان الكبيرة على توجيه الإشارات المستخدمة في الرصد بالصدى. ديبوزيت فوتوز
يساعد الشكل المميز لأنوف خفافيش حدوة الحصان الكبيرة على توجيه الإشارات المستخدمة في الرصد بالصدى. ديبوزيت فوتوز

الحيتان

تطبق الدلافين والحيتان القاتلة وغيرها من أنواع الحيتان المسننة آلية الرصد بالصدى لمطاردة الفرائس والتنقّل في الظلام، تماماً مثل الخفافيش. لكن هذه الثدييات المائية تصدر الموجات فوق الصوتية بطريقة مختلفة تماماً. توجد في رؤوس الحيتان، غالباً في منطقة قريبة من الفتحات التنفسية، زوائد تشبه الشفاه تهتز عندما تدفع هذه الحيوانات الهواء عبرها، ما يتسبب بإصدار صوت النقر. تقول كليبر: “يشبه الأمر نفخ بالون ثم إخراج الهواء منه؛ إذ إنه سيصدر صوتاً مميزاً عندها”.

يتوجه هذه الصوت عبر تعاريج جمجمة الدلفين إلى بُنى دهنية في مقدمة الرأس تحمل اسم البطّيخة، وتنقل هذه البنى بدورها الاهتزازات إلى المياه بكفاءة. ترتد هذه الموجات الصوتية عن فرائس الحيتان أو الأجسام الأخرى، لكن هذه الحيوانات لا تعتمد على الأذنين الخارجيتين لسماع الصدى؛ إذ إن قنوات الأذن لديها مسدودة بالصملاخ، بل تنتقل الاهتزازات عبر عظام الفكين لتصل الموجات الصوتية إلى التجاويف الرقيقة جداً -لدرجة عبور الضوء من خلالها- والمملوءة بالدهون. توجد هذه التجاويف بالقرب من الأذن الداخلية للحيتان، التي تتحسس صدى صوت النقر، ويمكن أن تكشف هذه العملية عن العديد من التفاصيل المختلفة، مثل مواقع الأسماك واتجاه حركتها وسرعتها.

الزبّابات

تملك الزبّابات شعيرات حساسة وبصراً ضعيفاً، وتطبّق هذه الحيوانات نوعاً أقل فعالية من آلية الرصد بالصدى لتعوّض ضعف بصرها في أثناء استكشافها لمواطنها في الغابات والمروج العشبية. وتطلق عالمة الثدييات في جامعة لشبونة في البرتغال، صوفي فون ميرتن (Sophie von Merten)، على هذه النوع اسم “التوجّه بالصدى” أو “الملاحة بالصدى”. تقول فون ميرتن إن هذه القدرة “قد تمكّن الزبّابات من التنبؤ بوجود عائق ما في طريقها” مثل الأغصان الساقطة، التي تتحسس الزبّابات وجودها باستخدام تغريداتها، ويستطيع البشر سماع أصوات الزبّابات الخافتة التي تشبه أصوات الطيور.

ليس من الواضح مدى فعالية آلية التنقل بالصدى التي تطبقها الزبّابات، ولكن وجدت فون ميرتن وأحد زملائها في تجربة أجريت في عام 2020 أن الزبّابات تصدر التغريدات بمعدل أكبر عندما أُدخلت إلى البيئات الجديدة، وتقول إنه من المرجح أن هذه الثدييات استخدمت هذه الأصوات لاستشعار المواقع غير المألوفة، ولكن من المحتمل أيضاً أن تكون هذه الحيوانات الأسيرة قد أصدرت الأصوات لأنها عانت من التوتر. لا تعتقد فون ميرتن أن الفرضية الأخيرة مقنعة للغاية، على الرغم من أن الأبحاث التي تجريها حالياً ستقيس درجة التوتر الذي تعاني منه الزبّابات أيضاً.

فئران الأشجار ذات الفراء الناعم

في عام 2021، وجدت دراسة نُشرت في مجلة ساينس أن هناك 4 أنواع من فئران الأشجار ذات الفراء الناعم تطبّق آلة الرصد بالصدى من خلال إصدار أصوات الصرير. تعيش هذه القوارض التي تنتمي إلى جنس يحمل اسم تيفلوميس (Typhlomys)، أو “الفئران العمياء”، في غابات الخيزران في الصين وفيتنام. استنتج الباحثون أن هناك “أدلة رصينة” تبين أن فئران الأشجار هذه هي “سلالة من الثدييات اكتُشف حديثاً أنها تتبع آلية الرصد بالصدى” من خلال فحص سلوك هذه الحيوانات وتشريحها وتركيبتها الوراثية.

هل يمكن أن يكون هناك كائنات أخرى غير مكتشفة تطبق هذه الآلية؟ تقول كليبر: “أعتقد أن هذا مرجّح للغاية، ومن الصعب التنبؤ بالثدييات والطيور التي قد تتبع هذا السلوك، نظراً إلى نقص المعلومات حول الأصوات التي يصدرها العديد من الأنواع ذات الأنماط الظاهرية المتشابهة للغاية”.

اقرأ أيضاً: لنحرص على حمايتها: كيف يمكن أن تؤثر القنادس والذئاب على الأنظمة البيئية؟

الإنسان

على عكس الخفافيش، لا يتمتع البشر بقدرة فطرية على الرصد بالصدى، ولكنهم يستفيدون من هذه الآلية قليلاً. ناقش غريفن في ورقته البحثية من عام 1944 حالة البشر الذين يوجهون أجسامهم باستخدام الإشارات السمعية، مثل القباطنة الذين يستمعون لصدى أبواق السفن المنعكس عن الجروف، أو المكفوفين الذين يتبعون صوت نقر عصيهم على الأرض.

قد يكون رئيس مؤسسة الوصول إلى العالم للمكفوفين (World Access for the Blind) غير الربحية، دانييل كِش (Daniel Kish)، أشهر شخص يستطيع تطبيق آلية الرصد بالصدى، وقد وصف كيف يوجّه نفسه من خلال إصدار صوت نقري بلسانه في مقابلة مع مجلة بوبيولار ساينس أجريت عام 2020، إذ قال: “كلما ازداد الزمن بين النقرة ورجوع الصدى، كان الجسم الذي ارتد عنه الصوت أبعد”. علّم كِش الآخرين كيفية إصدار الصوت النقري الذي يصدره أيضاً. تُبيّن أمثلة مشابهة أن الرصد بالصدى لدى البشر لا يتطلب وجود ميزات خاصة في الدماغ أو التمتّع بحاسة سمع قوية بشكل استثنائي، بل هو سلوك مكتسب يمكن تعلمه في نحو 10 أسابيع من الممارسة والتدريب.