تعتبر الحيتان الزرقاء (أو الهراكِلة الزرقاء) التي يتجاوز حجمها حجم أكبر الديناصورات كائنات غامضة ومحيّرة، إذ إنها تتغذّى فقط على القشريات التي تحمل اسم الكريل ويجهل العلماء الكثير من المعلومات عن البيئات التي تعيش فيها وعن طبيعتها. تعيش الحيتان الزرقاء في مختلف أنحاء العالم، باستثناء المحيط المتجمّد الشمالي، وتعتمد تحركاتها على حدثين أساسيين، فترة التكاثر وفترة التغذّي على القشريات. تقضي الحيتان الزرقاء التي تعيش شرق المحيط الهادئ فترة الشتاء قبالة سواحل المكسيك وأميركا الوسطى. ويمكن أن تقطع مسافة تصل إلى 48 كيلومتراً يومياً في أثناء هجرتها إلى الشمال تجاه ولاية كاليفورنيا خلال الصيف.
المسماعات المائية الاتجاهيّة لتتبع حركة الحيتان الزرقاء
بالإضافة إلى أحجامها وسرعاتها الكبيرة، تصدر الحيتان الزرقاء أيضاً أصواتاً فريدة وجميلة. مع ذلك، قد تكشف هذه التصويتات الفريدة عن أهم أسرار هذه الحيتان. استخدم فريق من الباحثين أجهزة تحمل اسم المسماعات المائية الاتجاهيّة في المختبر تحت المائي التابع لمعهد أبحاث حديقة أسماك خليج مونتيري (Monterey Bay Aquarium Research Institute) (وهي بمثابة استوديوهات بث علمية تحت مائية تسجّل الأصوات) للاستماع إلى تصويتات الحيتان الزرقاء. ونشروا نتائجهم في مجلة رسائل في علم البيئة. استخدم الباحثون هذه الأصوات لتتبع تحركات الحيتان الزرقاء، واكتشفوا أن هذه الحيوانات تستجيب للتغيرات في التيارات الهوائية للبحث عن الغذاء.
قال جون رايان (John Ryan)، أخصائي علم المحيطات الأول في معهد أبحاث حديقة أسماك خليج مونتيري والمؤلف الرئيسي للدراسة الجديدة لموقع مجلة بوبيولار ساينس (Popular Science، العلوم للعموم): "تمنحنا الحيتان الزرقاء معلومات واضحة ومفيدة للغاية تساعدنا في فهم هذه الكائنات"، أضاف رايان: "أشعر أن الحيتان الزرقاء تتعاون معنا لتساعدنا على فهمها من خلال إصدار هذه الأصوات في المحيط، والتي تعتبر مفيدة للغاية بالنسبة للأبحاث التي تساعدنا في التعلّم عن هذه الحيتان وحمايتها".
اقرأ أيضاً: أكبر شركة شحن في العالم تغيّر مسارات سفنها لحماية الحيتان الزرقاء
خلال فصلي الربيع والصيف، تتشكّل التيارات الصاعدة في المحيط الهادئ قبالة السواحل الوسطى لولاية كاليفورنيا. تحدث هذه الظاهرة الجوية عندما تدفع الرياح الطبقة العليا من المياه بشكل أفقي بينما تصعد المياه الأكثر برودة تحتها تجاه السطح. تصعد العوالق النباتية الصغيرة مع كتل المياه الباردة الغنية بالمغذّيات تجاه السطح، ما يتسبب في بدء نشاط الشبكة الغذائية في خليج مونتيري. وفقاً للدراسة الجديدة، عندما تتسبب التيارات الهوائية الموسمية بتشكّل التيارات الصاعدة، تتوجّه الحيتان الزرقاء إلى أعمدة المياه الباردة حيث تكون أسماك الكريل أكثر وفرة بالاستعانة بالرياح والتيارات الصاعدة. وتتحرك بعيداً عن السواحل مقتربةً من مسارات سفن الشحن عندما تتوقف التيارات الصاعدة وتختفي كتل الغذاء. ما تفعله هذه الحيتان ببساطة هو أنها تستخدم الرياح لإيجاد الغذاء.
استخدم المؤلفون المسماعات المائية الاتجاهية والأدوات الاتجاهية الأخرى لتحديد الجهة التي تأتي منها أصوات الحيتان. يقول رايان: "استخدمنا أيضاً مقاييس التسارع التي تقيس سرعة المياه وسرعة حركة الجسيمات فيها. باستخدام هذه الأجهزة، يمكننا أن نحدد أن الأصوات التي نسجلها أُصدرت من قبل الحيتان الزرقاء بالإضافة إلى قدرتنا على تحديد النقطة التي تم إصدار الصوت منها".
لإثبات أن الأصوات التي يتم تسجيلها أُصدرت من قبل الحيتان الزرقاء، قام باحثون من جامعة ستانفورد بتثبيت أجهزة تتبّع تحمل اسم ماصات التثبيت بشكل مؤقت على الحيتان التي تمت دراستها. قام الفريق بعد ذلك بمطابقة التسجيلات الصوتية ومواقع الحيتان باستخدام نظام تحديد المواقع. بعد اختبار طرق التتبع الصوتية، درس الباحثون البيانات الصوتية المتعلقة بتتبع مجموعات إقليمية من الحيتان الزرقاء، والتي تغطي فترة عامين من الزمن.
اقرأ أيضاً: لإنقاذ الحيتان المهددة بالانقراض، لا بدّ من البحث في فضلاتها
رحلة الحيتان لتعقّب التيارات الصاعدة
وجدت أبحاث سابقة أن أسراب أسماك الأنشوفة والكريل (والتي تدعى الأنواع العلفيّة) تستجيب للتيارات الساحلية الصاعدة من خلال الركوب على أعمدة المياه. بالاستفادة من هذه المعلومات، استخدم فريق الباحثين البيانات المتعلقة بتحركات أسماك الكريل والتسجيلات الصوتية للحيتان الزرقاء الباحثة عن الطعام. يقول رايان: "عندما تكون التيارات الصاعدة الساحلية في أشدها، تشكّل أسماك الأنشوفة والكريل أسراباً داخل أعمدة المياه الصاعدة. والآن، أصبحنا نعرف أن الحيتان الزرقاء تتعقّب هذه الأعمدة الديناميكية، حيث تتوفر كمية كبيرة من الموارد".
تبين الدراسة الجديدة أن الحيتان الزرقاء تستطيع تحسس تأثير الرياح على مواطنها، ما يدفعها لإيجاد المناطق التي تزيد فيها التيارات الصاعدة من كثافة أسماك الكريل. يعتبر إيجاد المناطق الغنية بأسماك الكريل ضرورياً للغاية لبقاء هذه الحيوانات التي يبلغ وزنها 165 طناً. وذلك لأنها قادرة على تناول ما يصل إلى مليوني طن متري من الكريل سنوياً. تتعقب الحيتان الزرقاء عملية تشكّل التيارات الصاعدة عن كثب لتطيل فترة التغذّي قدر الإمكان.
اقرأ أيضاً: في المحيط الشاسع: غناء الحيتان قد يحميها من الاصطدام بالسفن
تعتبر هذه الحيوانات معرّضة لخطر الانقراض، ويمثّل كل من قرب تحركاتها من مسارات الشحن واصطدامها بالسفن خطراً على ازدياد أعدادها. بيّنت دراسة نشرت في عام 2019، أن الحيتان الزرقاء معرّضة بشكل خاص لخطر الاصطدام بالسفن. وذلك لأنها لا تتحرك جانباً مبتعدة عن مسارات السفن، بل تغوص تحت السطح ولا تدرك أن جزءاً من جسم السفينة يكون مغموراً بالماء. ستساعد الأبحاث مثل البحث الجديد العلماء في معرفة مواقع الحيتان والكائنات التي تتغذّى عليها. وستساعد أيضاً في اتخاذ إجراءات أكثر كفاءة للحفاظ على هذه الكائنات، مثل فرض قيود على سرعة سفن الشحن.
يقول رايان: "ما فاجأنا هو طول المدة التي تقضيها الحيتان بعيداً عن الشواطئ في المناطق التي تمر عبرها سفن الشحن، ما يمثّل خطراً كبيراً على بقاء هذه الحيوانات المهددة بالانقراض وازدياد أعدادها"، ويضيف: "يجب علينا أن نطبّق التكنولوجيا التي استخدمناها في دراستنا في مناطق أخرى. وذلك لأننا طبقناها في منطقة واحدة تحتوي على مجال استماع مناسب".