كيف حددنا أخيراً ألوان ريش الديناصور

5 دقائق
كتاب "تطور الجمال: كيف تحدد نظرية اختيار الشريك التي نسيها داروين أشكال عالم الحيوانات والبشر"

في أحد الأيام من عام 2007 دخل عليّ في مكتبي في نيوهافين بنيويورك كل من أستاذ الحفريات في جامعة ييل ديريك بريغس وطالب الدراسات العليا جاكوب فينثر. وكانا يريدان أن يعرضا لي صورة التقطها جاكوب، وهي صورة مجهرية إلكترونية ممسوحة ضوئياً لريشة مكبرة عشرين ألف مرة. كانت الصورة ذات الفروقات الرمادية تظهر أشكالاً ناعمة تشبه النقانق تتوضع بالتوازي فيما بينها. وقد سألاني: "كيف يبدو شكلها لك؟" أجبت: "إنها أصباغ"، قال جاكوب لديريك وقد بدت عليه نشوة الانتصار: "قد قلت لك ذلك". يبدو أنهما كانا على رهان حول أمر مهم.

الأصباغ هي حزم من الميلانين مجهرية الحجم، تعطي الريش لونه الأسود أو الرمادي أو البني. وما لم يخبرني به جاكوب وديريك أول مرة هو أن الصورة المجهرية الإلكترونية كانت مأخوذة من ريشة تعود لأحفورة طائر يرجع إلى عصر الإيوسين الأول، وقد أُخذت من موقع فور الجيولوجي في الدنمارك. وإذا كان ما رأيته أصباغاً بالفعل فهي تعود إلى 55 مليون سنة.

يتركب صباغ الميلانين عند الطيور من خلايا صباغية منتجة للميلانين مغلفة بعضيّات ذات غلاف رقيق تدعى الأصباغ. وبشكل مشابه لصباغ الشعر عن الإنسان، فإن خلايا صباغ الميلانين عند الطيور تقوم بنقل الأصباغ الكاملة إلى داخل خلايا الريش خلال مرحلة نموه. وعندما تنضج خلايا الريش يتم إحاطة الأصباغ بجدار قاسٍ من بروتين بيتا-كيراتين الذي ينتج لون الريشة الناضجة.

ويعتبر الميلانين صباغاً قديماً وتنتجه جميع الحيوانات تقريباً. كما أنه متنوع في تركيبه الكيميائي، فعلى سبيل المثال، يتكون لون ريش الغراب الأمريكي الأسود واللون الأسود لشعر الإنسان من جزيئات اليوميلانين. ويتكون اللون البني الضارب للحمرة لريش طائر سمنة الغياض، ولون الشعر الأحمر عند الإنسان من جزيئة الفينوميلانين المميزة.

وقد قام علماء الحفريات بفحص الريش الأحفوري بالمسح المجهري الإلكتروني منذ أوائل الثمانينات. ورصدوا هذه الأجسام الإسطوانية، بل حتى أثبتوا أنها مكونة من الجزيئات العضوية الحاوية على الكربون بخلاف الصخر الذي يحيط بها. ومع ذلك، فإن علماء الحفريات متخصصون في العظام، وعادة لا يفكرون كثيراً في بيولوجيا الخلية. ولهذا، واعتماداً على شكل وحجم هذه الأجسام، استنتجوا أن هذه التراكيب كانت بكتيريا أحفورية استهلكت الريش خلال فترة تحجّره. ولأن علماء الحفريات يهتمون كثيراً بالآليات المحددة التي يتم من خلالها حفظ الأحافير المختلفة، فلقد تم التعامل مع هذه الأحفورة كاكتشاف مهم. ومع ذلك فإن الفرضية لا تملك الكثير من الصواب. فعلى سبيل المثال، لماذا كانت البكتيريا محفوظة أكثر من المعتاد وهي تأكل الريش الجاف غير القابل للهضم تقريباً، ولم تستهلك القطع الغضة للجسم المتحلل؟ وعلى أية حال، أصبحت فرضية البكتيريا مقبولة في علم الحفريات. وقدم اكتشاف جاكوب فرصة مثيرة للطعن في هذه الفكرة.  ولاختبار ما إذا كانت هذه التراكيب الأحفورية حقاً بكتيريا أو أصباغاً، كنا بحاجة إلى مثال لا جدال فيه لريش أحفوري مع نموذج محفوظ من صباغ الميلانين.

ولحسن الحظ كان بريغس يملك ثقافة موسوعية عن الأحافير الاستثنائية المحفوظة جيداً في متاحف العالم. وتذكّرَ أحفورة مخططة أفقياً من موقع براتو الجيولوجي في البرازيل، تعود إلى 108 ملايين سنة، وهي موجودة في المتحف الجيولوجي لجامعة ليسيستر. وقد حفظت الأحفورة تفاصيل مهمة لتركيب الريشة، بما فيها خيوط أسيلات الريشة. بالإضافة إلى أن نمط اللون المخطط على الريشة يظهر سمة مميزة لأنماط الصباغ الطبيعي للريش، ولا يمكن الخلط بينه وبين البكتيريا الأحفورية. وقد أثبتنا من خلال المجهر الإلكتروني أن الخطوط السوداء على الريشة تحتوي على أجسام دقيقة غزيرة لها شكل النقانق بطول عدة ميكرونات وبعرض 100-200 نانومتر، وهو ما يشبه إلى حد بعيد الأصباغ الموجودة في ريش الطيور الحالية. وفي المقابل، كانت الخطوط البيضاء على الريشة الأحفورية خالية تماماً من أي من هذه الهياكل. والتفسير الوحيد هو أن التراكيب المجهرية هي أصباغ محفوظة من الريشة الأصلية نفسها. وبطريقة ما، وتحت الظروف الملائمة، تتحجر الأصباغ على هيئة جميلة، وتستطيع تحمل مئات الملايين من السنين لتحافظ على مظهر النمط اللوني الأصلي لهذه الحيوانات الموغلة في القدم.

لقد ألهم بحثنا عن الأصباغ المتحجرة جيلاً جديداً تماماً من الأبحاث حول تلوين الفقاريات الأحفورية، بما في ذلك ريشها وشعرها وجلدها وحراشفها وأظافرها وحتى شبكية عينها. وبالطبع فإن السؤال الأكثر إثارة في هذا الحقل الجديد من الحفريات الملونة هو: ما هو لون الديناصورات؟ وبعد اكتشافنا هذا، لم يعد هذا السوال نوعاً من الخيال العلمي بل هو سؤال معقول تماماً يمكن التقصي عنه.

تطور الريش بدايةً في سلالة من الديناصورات الثيروبودية (ديناصورات قدم الوحش) آكلات اللحوم قبل منشأ الطيور وقبل منشأ الطيران. وقد أظهرنا -مبدئياً- أننا نستطيع إعادة تلوين الميلانين في ريش الديناصورات غير الطائرة. وفي الحقيقة، فإن أحفورة الريشة المخططة البرازيلية قديمة بما يكفي لنقول إنها تعود لديناصور غير طائر. وكل ما كنا نحتاجه هو عينات صغيرة من الريشة الأحفورية للديناصور من أجل الفحص على المجهر الإلكتروني.
تعتبر الديناصورات ذات الريش -والتي تعود على الأغلب إلى رسوبيات أوائل العصر الطباشيري وأواخر العصر الجوراسي في لياونينغ في شمال شرق الصين- من بين أكثر الاكتشافات إثارةً وثوريّةً في مجال الحفريات في القرن الأخير. ولكن إعادة تشكيل ألوان ريشها سيرفع من مستوى هذه الإثارة.

عينة من الديناصور الثيروبودي أنكيورنيس هوكسليي
حقوق الصورة: Kumiko/Flickr

مع فريق موسع من المتعاونين، بدأنا في العام التالي بإجراء البحث على عينة من ديناصور أنكيورنيس هوكسليي من أواخر العصر الجوراسي، والتي تعود لموقع لياونينغ في شمال شرق الصين، والموجودة في متحف بكين للتاريخ الطبيعي. وهو ديناصور ثيروبودي ذو قدمين، وذيل عظمي طويل، وأسنان صغيرة، وريش طويل على كل من أطرافه الأمامية والخلفية. وهو يعتبر واحداً من الديناصورات الغامضة "ذات الأربعة أجنحة" والقريبة من الديناصورات الشبيهة بالطيور (مثل فيلوسيرابتور "الممسك السريع" الذي يطارد الأطفال في المطبخ في فيلم الحديقة الجوراسية)، وأحفورة أركايوبتيريكس ليثوجرافيكا الطير الأول والجد الأعلى لكل الطيور الحالية.

وبالرغم من أن موقع لياونينغ معروف بدرجة حفظه الشديد للأحافير، فإن هذه العينة الخاصة من أنكيورنيس لم تكن تبدو مبشرة. لقد كانت تالفة تماماً. وقد تمت إزالة الرأس وحفظه على شريحة أخرى، وتم بسط الأطراف في جميع الاتجاهات. وكان هناك جديلة سميكة من الريش حول الذيل. وانتهينا من أخذ عينات صغيرة بحجم بذور الخردل من ثلاث مجموعات من مواضع الجسم من أجل الفحص تحت المجهر الإلكتروني. وبالنظر إلى ضعف مظهر العينة، لم نكن نأمل بأكثر من إيجاد أي نوع من الأصباغ.

وبعد العودة إلى نيوهافن، أظهر الفحص بالمجهر الإلكتروني أن بعض العينات كانت تملك أصباغاً على درجة جيدة من الحفظ، وبعضها يملك آثار انطباعات من الأصباغ، وبعض المناطق لم يكن فيه أي أصباغ محفوطة على الإطلاق. وكانت الفكرة التالية هي المقارنة بين أصباغ الأحفورة التي تعود لديناصور أنكيورنيس وأصباغ الطيور الحالية في الحجم والشكل والكثافة. وقد تبين أن أصباغ اليوميلانين في الريش الأسود والرمادي تميل إلى كونها طويلة ولها شكل النقانق، بينما كانت أصباغ الفيوميلانين في الريش البني المحمر دائرية ولها شكل سكاكر الجيلي. وبمقارنة القياسات بين أصباغ الأحفورة وأصباغ الطيور الحالية يمكننا تحديد لون ريش الأحفورة. وبما أننا أخذنا عينات من مناطق عديدة من الأحفورة فإننا نستطيع إعادة تشكيل اللون لكامل غطاء الريش تقريباً.
وكانت واحدة من أكثر اللحظات إثارة في تاريخي المهني العلمي عندما كنت أراقب إعادة ريش الأحفورة إلى الحياة، حيث قمت برسم الألون المكتشفة حديثاً، الأسود والرمادي والبني والأبيض، من أرقام العينات التي تعود إلى المواضع التشريحية لريش الحيوان. وكانت الصورة الناتجة أكثر روعة مما كنا نتخيل. إن وصف تلوين ريش الأحفورة كان أشبه بكتابة أول دليل ميداني عن الديناصورات الجوراسية. عندما كنت طفلاً، كانت تلهمني كتب الأدلة الميدانية لاكتشاف عالم الطيور. ولديّ الآن الفرصة كعالِم لإعادة تخيلها بطريقة جديدة كلياً.

كيف يبدو ديناصور أنكيورنيس هوكسليي؟ يبدو ريش جسمه رمادياً داكناً مع سواد في أجنحته الأمامية. أما الريش القشري الطويل على رأسه فكان بنياً مائلاً للحمرة. أما أكثر الألوان جاذبية فكان الريش الطويل الأبيض مع نهايات سوداء على كل من أطرافه الأمامية والخلفية والذي يشبه في لمعانه السلالات الحالية من دجاج هامبورغ. إن تاثير هذا الريش الأسود البراق على الأطراف هو لتمييز حواف الريش الزائدة ولتشكيل سلسلة من الأشرطة السوداء على الأجنحة. ومن المثير للاهتمام، أن الريش الطويل للأطراف كان متناظراً في شكله مثل ريش الطيور القادرة على الطيران، ولهذا، فإنه من غير الواضح تماماً ما إذا كان هذا المخلوق قد استخدم أطرافه كأجنحة انزلاق. بالإضافة إلى ذلك، فإن جسم هذا الديناصور كان مغطى بالريش بكثافة حتى أصابع قدمه، وكان يفتقر إلى القشرة السميكة على الساق والأصابع كما هو الحال عند معظم الطيور الحالية.

إن اكتشاف لون الديناصور ليس مجرد تسلية، فهو يثير أسئلة أساسية عن بيولوجيا الديناصورات، وعن الأصول التي نعتقدها حول بيولوجيا الطيور. كانت الأنماط الواضحة والمعقدة لأصباغ الريش عند هذا الديناصور تستخدم وبشكل واضح كإشارات جنسية واجتماعية. وهكذا فإن تطور جمال الريش لم ينشأ عند الطيور، ولكنه نشأ قبل ذلك عند الديناصورات الثيروبودية الأرضية. وقد تطورت الديناصورات لتبدو جميلة فيما بينها، وذلك قبل أن تتطور سلالة منها لتصبح طيوراً قادرة على الطيران. ويعود هذا التاريخ الجمالي الغني للطيور إلى جذورها من الديناصورات الثيروبودية في العصر الجوراسي.

 

المحتوى محمي