تمتلك مجموعةٌ من الحيوانات المائية الصغيرة وتُعرف بالهيدرا قدراتٍ تجديدية مذهلة، إذ يمكنها إعادة بناء أجزاء جسمها التي تنفصل عنها لسببٍ أو لآخر، حتى إنها تستطيع إنبات رأسها مرةً أخرى إذا ما انفصل عنها.
لكن الآلية التي تسمح بإعادة إنماء رأس الهيدرا ظلت غير مفهومةٍ حتى الآن. لذلك قام العلماء مؤخراً بدراسةٍ عميقة على الجينات التي تنشط أثناء عملية التجديد وكيفية التحكم بها، على أمل فهم الأسس الجينية لهذا العمل الفذ.
الأسس الجينية لعملية إنماء رأس الهيدرا
تقول أيدا ماسياس مونيوز، عالمة الأحياء التطورية بجامعة كاليفورنيا، سانتا باربارا، والتي أجرت البحث أثناء وجودها في جامعة كاليفورنيا إيرفين: «أردنا أن نعرف ما الذي يدفع الخلايا للنمو أو التوقف عن النمو على المستوى الجيني، وكيف يمكن فهم ذلك في إطار التطور الطبيعي».
وجدت مونيوز وزملاؤها اختلافات رئيسية في نمو الرأس أثناء التجدد و«التبرعم»، وهو شكل التكاثر اللاجنسي الذي تستخدمه الهيدرا وبعض الحيوانات الأخرى مثل الشعاب المرجانية. وقد وجد الفريق أيضاً أن بعض الآليات المشاركة في عملية التجديد لدى الهيدرا تشبه تلك التي تتحكم في التطور لدى الحيوانات الأخرى. قد يشير ذلك إلى أن «أدوات التطوير» هذه لها تاريخٌ قديم في مملكة الحيوانات وفقاً لما تقوله ماسياس مونيور، التي نشرت نتائج بحثها بتاريخ 8 ديسمبر/كانون الأول في دورية «بيولوجيا الجينوم والتطور» (Genome Biology and Evolution).
تنتمي الهيدرا إلى مجموعة أكبر من اللافقاريات تسمى الكائنات الجوفمعوية، وتشمل أيضاً شقائق نعمان البحر والشعاب المرجانية وقنديل البحر. أجسامها بسيطة أنبوبية الشكل مع توضع الفم واللوامس على أحد طرفيها، بينما تتوضع القدم التي تتشبث بها الهيدرا على الصخور المحيطة أو على أي جسم صلب على الطرف الآخر.
اقرأ أيضاً: هذه الحيوانات تقوم بالبتر الذاتي لأطرافها وحتى أعضائها التناسلية للحفاظ على بقائها
يمكن لبعض الحيوانات مثل السحالي والسلمندر إعادة إنماء أطرافها المفقودة. لكن عملية التجديد عند الهيدرا وبعض الديدان والحيوانات الأخرى، تذهب إلى أبعد من ذلك بكثير. تحتوي الهيدرا على مجموعة من 50 إلى 300 خلية تتوضع بالقرب من أجزاء الفم، ويُسمى مجموعها منظّم الرأس؛ وهي، كما يوحي اسمها، توجه تطور الرأس. إذا قُطع رأس الهيدرا، يمكن أن يتشكّل منظم جديد يعمل على إعادة نمو الرأس. كما يمكن أن ينمو الرأس إذا ما قُطع من الطرف السفلي في بعض الأحيان.
نجح العلماء كذلك في تطعيم رؤوس هيدرا على أجسام مقطوعة الرأس من هيدرات أخرى. تقول مونيوز: «إذا مُزقت الهيدرا إلى قطعٍ صغيرة من الخلايا، فإن القطع التي تحتوي على خلايا منظم الرأس ستعيد نمو الجسم بالكامل».
قامت مونيوز وفريقها بالتحقق مما إذا كانت الهيدرا تتبع نهجاً مماثلاً لبناء رؤوسها أثناء التجدد والتبرعم (تتكاثر الهيدرا بالتبرعم، حيث ينمو الحيوان الجديد كبرعمٍ صغير في البداية ثم ينفصل فيما بعد ليشكّل حيوان هيدرا جديد مستقل تماماً). وقاموا بتحليل عينات الأنسجة المأخوذة من الهيدرات التي خضعت لكلتا العمليتين، وحددوا 298 جيناً تم التعبير عنها بشكل مختلف أثناء تجديد الرأس وتبرعمه، من بينها جينات مرتبطة سابقاً بتكوين منظمات الرأس في الهيدرا، بالإضافة إلى الجينات المشاركة في عملية التجديد في الحيوانات الأخرى.
تقول ماسياس مونيوز: «على الرغم من أن نتيجة التجدد والتبرعم هي نفسها، لكنها تتخذ مساراتٍ مختلفة».
قامت هي وزملاؤها أيضاً بفحص الآليات التي قد تتحكم بتنفيذ التعليمات التي تحملها هذه الجينات أثناء التجديد، وقاموا بالتركيز على كروماتين الحيوانات، وهي مادةٌ وراثية مجمعةٌ بإحكام وتتكون من مزيج من الحمض النووي والبروتينات. عندما يكون امتداد الكروماتين "مغلقاً"، فإن البروتينات التي تسمى الهيستونات تبقيه ملفوفاً بحيث لا يمكن قراءة الحمض النووي في داخله، وعندما يكون "مفتوحاً"، يمكن لبروتيناتٍ أخرى ان ترتبط بالحمض النووي وتنسخه.
تقول ماسياس مونيوز: «تكون بعض مناطق الكروماتين مفتوحة في أوقات معينة أثناء عملية التجدد، وفي أوقات أخرى تكون مغلقة، لذلك فإن الأمر لا يتعلق فقط بعمل الجينات أو توقفها، ولكن يتعلق أيضاً بحقيقة أن هذا التحول بين الكروماتين المفتوح والمغلق يساعد في تنظيم التعبير عن هذه الجينات المهمة للتجديد».
كما حدد الباحثون مناطق داخل الكروماتين تُعرف بربطها للبروتينات التي تلعب أدواراً مهمة في التطور في أنواع حيوانية مختلفة. ووفقاً لمونيوز، يشير ذلك إلى أن بعض الآليات الجينية الكامنة وراء التجدد قد تطورت قبل أن تنفصل الكائنات الجوفمعوية عن أسلافها الأكثر "تعقيداً"، مثل البشر.
فوائد مستقبلية لهذه الدراسة
وتضيف أن النتائج تثير سؤالاً مثيراً للاهتمام: «هل يحدث تجديد الأنسجة في الهيدرا والحيوانات الأخرى بطريقةٍ متشابهةٍ جداً؟ أم أن الحيوانات، مثل السحالي والسلمندر، "تعيد توصيل" جينات النمو بطرقٍ فريدة ومختلفة للحصول على نفس النتيجة كما في الهيدرا؟».
في المستقبل، سوف تستكشف ماسياس مونيوز كيف تتفاعل الجينات وعمليات التحكم التي حددتها هي وفريقها. وتقول في هذا السياق: «ستكون الخطوة التالية هي اختبارها وظيفياً والتحقق من أن لها دوراً ما في عملية التجديد».
يمكن أن يؤدي التحقيق في آلية عملية التجديد في الكائنات الحية البسيطة مثل الهيدرا، ومدى تشابهها مع العمليات في الحيوانات الأخرى، إلى فهم كيفية حدوث انحرافاتٍ في التطور عند البشر.
تختتم ماسياس مونيوز: «إن دراسة الهيدرا تعطينا فكرة أساسية عن إمكانيات الخلايا وماهية الآليات على المستوى الجيني. إذا تمكنا من معرفة كيفية تعطيلها أو كيفية إصلاح تعطلها في الكائنات الحية الأخرى، فربما يمكننا التفكير في كيفية معالجة هذه الاضطرابات التي تؤدي إلى المرض بشكل مختلف».