إنه يوم مثالي من أيام يونيو، فبعد أسابيع من السماء الممطرة الملبدة بالغيوم، أعطى الحمّام الصباحي فرصة للإحساس بأشعة الشمس. وما تزال الغيوم البيضاء المتراكمة وكأنها رسم عبثي على خلفية زرقاء.
ومع أن المياه على امتداد المحيط الأطلسي تميل إلى اللون الرمادي القاتم (وهو لون يفترض أنه يبعث على الطمأنينة)، فإن المياه اليوم تبدو بلون أخضر مائل إلى الفيروزي. أنا الآن على متن قارب أبيض من طابقين بطول 29 متراً يجوب خليج نيويورك، وهو فجوة في الساحل الأطلسي تجعل نيويورك عرضة للأمواج العارمة، كتلك التي تصاحب إعصار ساندي. ولكننا اليوم لا نتحدث عن العواصف، بل عن الحيتان.
لأول مرة خلال قرن، تعود حيتان جمل البحر إلى مياه ميناء نيويورك. وهي تعود بأعداد كافية بحيث تجعل شركات السياحة تستقطب السياح باتجاه المحيط لرؤية هذه الحيتان الوافدة على مسافة البصر من ناطحات مانهاتن.
يقول بول سيسويردا لمجلة بوبيولار ساينس: "بسبب تحسن جودة المياه، فقد تضاعفت الطحالب والعوالق الحيوانية، لتكون غذاءاً مناسباً لسمك مينهادن الصغير، وهو بدوره غذاء محبب للحيتان، وقد تضاعفت أعداده بشكل كبير لم يعهده الصيادون طوال حياتهم. وأثناء عمله كقيّم لمعرض الأحياء المائية في نيويورك، قام سيسويردا منذ ذلك الحين بتأسيس منظمة "حيتان جوثام" وهي منظمة تقوم بتنظيم الجولات السياحية ورصد وجود الحيتان والفقمات والدلافين في نيويورك. وهو يقول عن ذلك: "تظهر استطلاعاتنا زيادة هائلة في عدد الحيتان منذ عام 2011 عندما بدأنا بدراساتنا لأول مرة. وقبل ذلك الوقت، لم تكن الحيتان تظهر إلا بشكل متقطع".
وبينما يُسجل سيسويردا عودة الحيتان في عام 2011، فإن عام 2014 هو العام الذي لفتت فيه الحيتان اهتمام الكثيرين في نيويورك، عندما رصدت الكاميرا وجود أحد الحيتان المميزة، حيث خرج أحد حيتان جمل البحر من الماء، وطفا بجسمه البالغ طوله أكثر من 12 متراً ووزنه البالغ 40 طناً برشاقة. ومع أن ذيله بقي تحت الماء، فإنه كان بارزاً برأسه بفخر. وقد ساعدته قوة زعانفه الصدرية الخارقة ورشاقتها في البقاء طافياً في حركة بطيئة ومضبوطة تشبه حركة إنسان يسبح في الماء.
تستخدم الحيتان هذه الحركة والتي تدعى "القفزة الخاطفة" لتأخذ نظرة أفضل عن محتويات سطح الماء، كوجود الفرائس، أو البشر الذي يراقبونها من القوارب. وهو منظر يبدو عجائبياً في أي مكان من العالم، أما أن نراه في نيويروك على خلفية براقة لمبنى إمباير ستيت، فإنه أمر يفوق الخيال. ولهذا لم يكن مستغرباً أن تنتشر هذه الصور بشكل كبير على وسائل التواصل، لتضع هذه الحيتان المدنية في دائرة الضوء.
في نفس السنة التي بدأت فيها حيتان جمل البحر بلفت الأنظار، سجل سيسويردا ظهور 106 حيتان في مياه نيويورك. وفي نوفمبر 2016 شوهد أحد الحيتان يسبح قرب تمثال الحرية.
ولم تكن الحيتان وحدها في هذا المشهد، بل كانت معها الدلافين والفقمات أيضاً. وقد كان ذلك صادماً لسكان نيويورك القدامى الذين لم يعهدوا هذا المنظر على شواطئ وأنهار نيويورك.
عندما أرى الحيتان بنفسي لا أستطيع إخفاء حماسي الشديد. وقد رأيت مع مرافقتي القادمة من ماساشوسيتس ثلاثة حيتان، حوتين بالغين وآخر صغيراً، وكانت مرافقتي أقل حماسة مني عندما شاهدتهم في رحلتنا التي استمرت أربع ساعات. وهي تقول إن الحيتان في بلدها أكثر نشاطاً، وأن الحيتان التي رأيناها بالكاد تظهر فوق سطح الماء. ولكن بالنسبة لشخص مثلي نشأ في هذه المدينة، وكان ممنوعاً من التوجه إلى الشواطئ بسبب الخوف على سلامته، فإني لا أعتقد أن مدينتي تعتبر أي نوع من الحيتان نوعاً عادياً.
يقول جون كرونين في كتابه "حماة النهر"، وهو كتاب عن الجهود المبكرة لتنظيف نهر هودسون: "كان الأطفال من جيلي، يعرفون ثلاثة أشياء عن نهر هودسون، أنه يشكل الحد الفاصل بين نيويورك ونيوجرسي، وأن الأسيجة العمودية الداكنة على الشاطئ المقابل أخذت اسمها من حديقة الملاهي التي تتوضع فوقها، وأن مياه النهر شديدة التلوث ولا تصلح للسباحة".
ولد كرونين عام 1950، وكان من الأجيال الأولى من سكان نيويورك الذين أجبروا على ترك البيئة التي نشؤوا فيها.
وقد يكون غريباً أن تفكر في نيويورك أو أي مدينة أخرى كجزء من نظام بيئي، ولكن بقدر ما تشتهر نيويورك بأنها غابة من الإسمنت، فإن كون نيويورك نظاماً بيئي هو اليوم فكرة صحيحة إلى حد ما أكثر من أي وقت مضى. فاليوم، تتجول الثعالب في السنترال بارك في نيويورك، وحيوانات الأبوسوم ترعب المشاة في بروكلين، وسكان منطقة كوينز يعرفون كيف يثبتون العلب الفارغة بإحكام لمنع دخول حيوانات الراكون. وفي الوقت نفسه، تبني الصقور أعشاشها فوق جسور المدينة وناطحات السحاب. كما أن هناك من المسنين من قضى حياته يبحث عن نبات الفتلاق، ويصيد أسماك القاروس المخططة والمفلطحة، وأسماك البغروس، وأسماك الفرخ في أنهار نيويورك. ومع وجود بعض الاستثناءات، فإن الأسماك هذه الأيام عادت لتكون صالحة للأكل مرة أخرى، فالمجاري المائية أصبحت مناطق محمية.
يملك نهر هودسون مع نهري مدينة نيويورك الآخرين: نهر برونكس ونهر الشرق، أهمية كبيرة، لأنها تغذي المحيط المجاور، فالذي نتخلص منه في النهر يصب في المحيط. ونهر هودسون ليس مجرد نهر، بل هو مصب نهري مدّي، بمعنى أنه يجري باتجاهين، فمياه المحيط يصل أثرها لمسافة تبلغ 246 كم من مصب النهر البالغ طوله 507 كم. و يتعرض النهر لأربع حركات مد في اليوم، حيث يفيض المحيط ثم ينحسر.
وبالعودة إلى فترة شباب كرونين، فإن لون النهر قد تغير مع الارتفاع الكبير لمبيعات السيارات، حيث كانت شركة جينيرال موتورز تصب مخلفات طلاء سياراتها مباشرة في النهر. ومابين عامي 1947 و1977 تاريخ إقرار "قانون المياه النظيفة"، قامت شركة جينيرال إليكتريك التي تقع عند منبع النهر بتصريف حوالي 600 طناً من ثنائي الفينيل متعدد الكلور في نهر هودسون. وبحسب الوكالة الأميركية لحماية البيئة، فإن ثنائي الفينيل متعدد الكلور، وبالإضافة إلى كونه يسبب السرطان، فإن له تأثيرات مناعية وتناسلية وعصبية ضارة.
وفي الوقت ذاته، فإن نهر برونكس يعد مصرفاً صحياً مفتوحاً. وفي المراحل الأولى من تنظيفه، تم سحب أكثر من 89 سيارة منه. وهو يعد نهر المياه العذبة الوحيد في المدينة. أما نهر الشرق، الذي يفصل مانهاتن عن بروكلين وكوينز، فهو معروف كتجمع لمياه المجاري (ولجرائم قتل الغوغاء أيضاً). وفي الثمانينات، كانت المخلفات الطبية بما فيها الحقن تحت الجلدية تتدفق إلى شواطئ المنطقة.
أما اليوم، فليست الحيتان وحدها التي تستمع بالمجاري المائية في نيويورك، فالبشر أيضاً يسبحون في نهر الشرق. ويشارك الآلاف كل عام في كل منافسات الرجل الحديدي التي تجري في نهر هودسون. كما تقيم شركة مانهاتن كاياكينج دورات لتعليم التجديف وقوفاً. ويتردد اليوم حتى أكثر سكان المدينة تشاؤماً على المجاري المائية الممتدة لمئات الكيلومترات، والتي لا توفر المشي وركوب الدراجات وحسب، ولكنها توفر رؤية الواجهات المائية أيضاً.
ولكن لمن يعود الفضل في هذا التحول الجذري؟ لمن لا يعرف نقول: إن هناك تشريعاً يعود إلى ستينات القرن الماضي، يهدف إلى إدارة أفضل للمجاري المائية في نيويورك وأميركا كلها. وقد مرر الكونجرس قانون المياه النظيفة عام 1963، ووسعه في أعوام 1970 و1977 و1990. وفي 22 أبريل من عام 1970 (وهو تاريخ أول احتفال بيوم الأرض) وقع حاكم الولاية نيلسون روكفيلير قانون الحفاظ على البيئة في نيويورك، الذي مكن من إدارة وتنظيم قوانين البيئة في الولاية. وقد كان لتأسيس وكالة حماية البيئة في نفس العام نفس التأثير على المستوى الاتحادي. وقد وفر تمرير قانون المياه النظيفة وقانون مياه الشرب الآمنة الإطار التشريعي لمحاسبة ملوثي البيئة.
وقد أغرت المجاري المائية الأكثر نظافة الأسماك بالعودة، بينما أدت القيود التي فرضت على الصيد التجاري (وهي قيود تعزى في جزء منها إلى أن بعض أنواع الأسماك لا يصلح للاستهلاك البشري، لوجود متبقيات من ثنائي الفينيل متعدد الكلور في أجسامها) إلى توفير ما يشبه المائدة المفتوحة للحيتان.
ولكن لا بد من الأخذ بعين الاعتبار أنه وبالرغم من كون المجاري المائية في المدينة أصبحت أنظف، فإنها ليست مثالية. فالمدينة هي موطن لاثنين من المواقع المائية وهما: قناة جاوانوس ومضيق نيوتن. وما تزال المدينة تصب حوالي 100 مليار ليتر من مياه العواصف ومياه المجاري في عدة مجارٍ مائية كل سنة، وذلك بشكل قانوني بسبب نظام الصرف الصحي المهمل، والذي يحتاج إلى إصلاح.
يقول إيموند ديغيل، المخطط المدني الذي يعمل مع عدة مجموعات لتنظيف قناة جوانوس في بروكلين: "الماء هو فضاؤنا المفتوح الأكثر قيمة، بغض النظر عن مدى تلوثه. فدعونا نجعله متاحاً ونظيفاً من جديد، دعونا نشتري بعض الزوارق، ونوفر بعض الدروس للأطفال، ونعيد الاتصال بالناس".
وقد أسست المجموعة مؤخراً مرفأ على قناة جاوانوس، وهي تخطط لتصميمه بلوحات دارات إلكترونية من مخلفات الجيش تم استخراجها من القناة.
يقول كرونين: "قبل جيلين من الآن، كان والداي يتمتعان بعلاقة مختلفة تماماً مع النهر عندما كانا شابين. تعلم والدي السباحة في نهر هودسون، وكان واحداً من فتيان أبرشية القديس بطرس الذين كانوا يخرجون بالقارب بقيادة المونسينيور براون الذي كان يربط الحبل الغليظ حول خصر أقرب شاب إليه، ويرميه في الماء مع إعطائه الأمر: اسبح".
ربما لا يمكننا العودة إلى اليوم الذي كان فيه شباب نيويورك يرسَلون إلى المياه خلال درس الجمباز. ولكن عودة الحيتان تشكل إشارة إلى أن نيويورك قد بدأت بالإجراءات الصحيحة الخاصة بمجاريها المائية، وأن هذا الأمر يجب أن يشجعها على القيام بعمل أفضل.