الخوف من المحيطات، أو رهاب البحر، هو رد فعل عاطفي مبرر؛ إذ إن هذا الوسط مظلم وغير صالح للسكن بالنسبة للبشر، فضلاً عن أنه يحتوي على بعض من أكبر الكائنات وأغربها في العالم. مع ذلك، قد تخفف شدّة هذه المشاعر حقيقة أن التطور أنقذنا من نوع محدد مرعب من الحيوانات، وهو تماسيح أعماق البحار.
جابت أسلاف التماسيح التي تحمل اسم "الثالاتوسوكيات" (Thalattosuchia) العالم في العصر الجوراسي الأوسط والعصر الطباشيري المبكر (منذ نحو 191-113 مليون سنة)، وتألفت من مجموعتين رئيسيتين، التيلوصوريات والميتريورينشيدات. على الرغم من أن الأدلة الأحفورية تشير إلى أن التيلوصوريات تشبه التماسيح الحالية، فقد اكتسبت الميتريورينشيدات أجساماً انسيابية تشبه أجسام الدلافين وزوائد ذات زعانف أتاحت لها الازدهار في البيئات البحرية. مع ذلك، تشير الأدلة الأحفورية أيضاً إلى أن الثالاتوسوكيات لم تتمكن من الوصول إلى الأعماق التي تصل إليها الدلافين والحيتانيات الأخرى بصورة اعتيادية. ربما توصل الخبراء إلى السبب الذي جعل خطوم الثالاتوسوكيات غير قادرة على تحمل الضغط، وذلك بفضل العشرات من عمليات المسح الجديدة للجماجم.
اقرأ أيضاً: دراسة جديدة: كوكب الأرض سيواجه انقراضاً جماعياً يفني الثدييات جميعها
السر في الجيوب القحفية
استخدم فريق بحثي دولي قاده علماء حفريات الأحياء من جامعة ساوثهامبتون في المملكة المتحدة مؤخراً التصوير المقطعي المحوسب لفحص 11 جمجمة من جماجم الثالاتوسوكيات ومقارنتها بستة أنواع أحفورية أخرى، بالإضافة إلى 14 نوعاً من التماسيح الحديثة. استخدم الفريق المسوحات لفحص نظامين من الجيوب الأنفية بدقة، الجيوب القحفية الدماغية المحاطة بالعظام والجيوب الخطمية. فصّل الباحثون نتائجهم في دراسة نشرتها مجلة الجمعية الملكية للعلوم المفتوحة (Royal Society Open Science) بتاريخ 30 أكتوبر/تشرين الأول 2024.
أشارت الصور إلى أن الثالاتوسوكيات، على غرار الدلافين والحيتان، اكتسبت جيوباً قحفية دماغية أصغر بينما انتشرت أكثر في المياه، على الأرجح تكيفاً مع الغوص والصيد والطفو. لكن على عكس الحيتانيات، بدأت أحجام الجيوب الخطمية لدى الثالاتوسوكيات بالازدياد بدلاً من الانخفاض في مرحلة ما، وخصوصاً أنوف الميتريورينشيدات.
قال المؤلف الرئيسي للدراسة، مارك يونغ، في بيان صحفي صدر بتاريخ 27 أكتوبر/تشرين الأول 2024: "يشبه تراجع أحجام الجيوب القحفية في الثالاتوسوكيات التراجع في أحجام الجيوب لدى الحيتانيات؛ إذ تقلصت هذه الجيوب في أثناء المرحلة شبه المائية ثم تقلصت أكثر مع تحول هذه الحيوانات إلى حيوانات مائية بالكامل". على الرغم من أن أنظمة الجيوب الخطمية للحيتانيات الحديثة تساعد على تخفيف ضغط مياه المحيط بجماجمها، فإن الجيوب الأنفية الأكبر حجماً لدى الميتريورينشيدات كان لها أثر معاكس.
قال يونغ: "كان الهواء لينضغط داخل جيوب [الميتريورينشيدات] في الأعماق الأكبر، ما كان ليتسبب بالإزعاج أو التلف أو حتى انهيار الخطم بسبب عدم قدرة هذه الحيوانات على تحمل الضغط المتزايد أو معادلته".
اقرأ أيضاً: العلماء يتتبعون شجرة العائلة التطورية الفريدة للتماسيح
تكيفات أخرى حرمت التماسيح العيش في أعماق البحار
مع ذلك، لم يكن اكتساب الثالاتوسوكيات جيوباً أكبر منعتها من الغوص لأعماق كبيرة عن عبث. على الرغم من أن كلى الحيتان والدلافين تتمتع بكفاءة عالية للغاية في تصفية الملح من مياه البحر، تعتمد الزواحف والطيور البحرية على غدد متخصصة لإزالة المعادن التي قد تكون ضارة من أجهزتها. على سبيل المثال، تعطس سحالي الإغوانا لإزالة الملح الزائد من قنواتها، وبالنظر إلى أن الجيوب الخطمية لدى الميتريورينشيدات أكبر وأعقد، يفترض علماء حفريات الأحياء أن أسلاف التماسيح هذه اتبعت السلوك نفسه.
قال يونغ: "تتمتع الطيور بجيوب تخرج من الخطم وتمر تحت العينين، حالها كحال الميتريورينشيدات، ويؤدي تقلص عضلات الفك لديها إلى توليد أثر شبيه بأثر المنفاخ داخل خطومها. لو تعرّضت جيوب الميتريورينشيدات إلى هذا الأثر، فإنها كانت لتضغط غدد الملح في الجمجمة وتولّد أثراً شبيهاً بالعطس، على نحو شبيه بسحالي الإغوانا البحرية".
لكن لسوء حظ الثالاتوسوكيات، فقد اكتسبت جيوباً خطمية أكبر خلال العصر الطباشيري، ما فسح المجال لتطور أخلافها المعاصرة. بسبب ذلك، قال يونغ إن الخبراء لن يعرفوا أبداً على وجه اليقين إن كانت هذه الحيوانات قادرة على التطور بطرق تجعلها تشبه الحيتان والدلافين أكثر لو توفر لها المزيد من الوقت، أو إن كان البشر سيضطرون يوماً ما إلى إضافة "تماسيح أعماق البحار" إلى قائمة مخاوفهم من البحر.