إلى جانب كونها مصدر إلهام للعديد من أفلام الرسوم المتحركة، تُعد جزيرة مدغشقر موطناً لبعض المخلوقات الأكثر إثارة للاهتمام في العالم. انفصلت الجزيرة عن الساحل الإفريقي منذ نحو 160 مليون سنة، وتقع الآن على بُعد نحو 400 كيلومتر من الساحل الشرقي للقارة في المحيط الهندي. كما تعد منطقة غنية بالتنوع البيولوجي، إذ لا توجد نحو 95% من زواحفها ونحو 89% من نباتاتها و92% من الحيوانات الثدية فيها، لا توجد في أي مكانٍ آخر على الأرض، وفقاً للصندوق العالمي للحياة البرية.
مدغشقر: موطن العمالقة القديمة
كانت مدغشقر منذ زمن بعيد موطناً لبعض الفقاريات الكبيرة المذهلة (المعروفة أيضاً باسم الحيوانات الضخمة- megafauna)، والتي تضم الليمور الأحفوري العملاق الذي كان بحجم الغوريلا، وطائر الفيل الذي كان يبلغ طوله نحو 3.5 أمتار، بالإضافة إلى السلاحف العملاقة وفرس النهر. في دراسة حديثة تركز على علم الوراثة البشرية، نُشرت نتائجها مؤخراً في مجلة "كارنت بيولوجي"، تم الربط بين فقدان هذه الفقاريات الكبيرة بأول توسع بشري كبير حدث في الجزيرة منذ نحو ألف عام.
اقرأ أيضاً: ازدياد في أعداد أسماك الجرو أكثر اللافقاريات ندرة في العالم
يقول مؤلف الدراسة من المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي (CNRS)، دينيس بييرون، في بيان: «تزامن هذا التوسع الديموغرافي البشري مع انتقال ثقافي وبيئي في الجزيرة. في نفس الفترة تقريباً، نشأت مدن جديدة في مدغشقر واختفت جميع الفقاريات التي يزيد وزنها على 10 كيلوغرامات».
وحسب بييرون، فإن أصول الحياة في مدغشقر لا تزال تمثل لغزاً للعلماء. الجزيرة هي موطن لـ 25 مليون شخص يتحدثون لغة تسمى اللغة الملغاشية. يتم التحدث باللغة الملغاشية أيضاً في جزر المحيط الهندي الأخرى مثل ريونيون ومايوت وموريشيوس، وتعيش بعض المجموعات التي تتحدث هذه اللغة أيضاً على بعد أكثر من 6500 كيلومتر في جزر سوندا في جنوب شرق آسيا. بالإضافة إلى ذلك، من المعروف أن جذور الأشخاص الذين يعيشون في مدغشقر تعود إلى مجموعتين صغيرتين من السكان؛ الأولى من إفريقيا وتتحدث لغة البانتو والأخرى من آسيا وتتحدث لغة أسترونيزية.
مدغشقر جينيّاً وإثنيّاً
في محاولة لتتبع تاريخ وأصل اللغة الملغاشية في الجزيرة، تم إطلاق مشروع "مدغشقر جينياً وإثنياً" (MAGE) عام 2007، حيث تمت في إطاره أكثر من 250 زيارة إلى جميع أنحاء الجزيرة قام بها السكان المحليون الناطقون بالملغاشية برفقة الباحثين لدراسة التنوع الثقافي والجيني.
في هذه الدراسة الجديدة، فحص الفريق عن كثب الأدلة الجينية البشرية، وعلى وجه التحديد كيفية مشاركة أجزاء مختلفة من الكروموسومات البشرية، إلى جانب معلومات السلالة المحلية وبيانات وراثية تم استنباطها من محاكاة الكمبيوتر. ومن خلال معالجة هذه البيانات، استنتج الفريق أن أسلاف سكان مدغشقر الآسيويين بقوا معزولين على الجزيرة لأكثر من ألف عام، وكان عددهم لا يتجاوز بضع مئات فقط.
اقرأ أيضاً: العلماء يحلون لغز قوقعة أخطبوط الأرجونوت التي أثارت فضول أرسطو
ثم انتهت عزلة هؤلاء السكان عندما جاءت مجموعة صغيرة من الأفارقة الناطقين بالبانتو إلى مدغشقر، ما أدى إلى نمو عدد السكان على مدى عدة أجيال. تفترض الدراسة أن هذا العدد المتزايد من السكان قد غيّر النظام البيئي في مدغشقر وبيئتها الطبيعية، ما أدى إلى فقدان جميع الفقاريات ذات الأجسام الكبيرة التي عاشت هناك يوماً ما.
يقول بييرون: «تدعم دراستنا النظرية القائلة إن وصول البشر إلى الجزيرة لم يكن سبباً مباشراً لاختفاء الحيوانات الضخمة، بل كان تغييراً في نمط الحياة تسبب في زيادة عدد السكان وانخفاض التنوع البيولوجي في مدغشقر».
يمكن تطبيق استنتاجات هذه الدراسة على دراسات أخرى حول السكان وأنظمتهم البيئية. وفقاً للمؤلفين، يمكن لهذا النهج كشف التاريخ الديموغرافي للسكان القدامى بعد فترة طويلة من اختلاط مجموعتين أو أكثر باستخدام البيانات الجينية والمحاكاة الحاسوبية التي يمكن أن تختبر احتمالية سيناريوهات مختلفة.
اقرأ أيضاً: اكتشاف مخلوق صغير عاش قبل 150 مليون عام إلى جانب الديناصورات
كما هو الحال مع معظم الدراسات، تظل العديد من الأسئلة دون إجابة، وهناك حاجة إلى مزيد من البحث للإجابة عنها. يقول بييرون في هذا الصدد: «إذا بقي سكان مدغشقر الأسلاف معزولين لأكثر من ألف عام قبل أن يختلطوا بالسكان الأفارقة، فأين كان هؤلاء السكان قبل ذلك؟ هل كانوا بالفعل في مدغشقر أم في مكان آخر في آسيا؟ ولماذا عزلوا أنفسهم منذ أكثر من ألفي عام؟ وما الذي أدى إلى ذلك التحول الثقافي والديموغرافي الملحوظ منذ نحو 1000 عام؟».