يعيش الجريبل الصغير – والذي لا يتجاوز طوله 2.5 سنتيمتر – في البيئات البحرية الساحلية، ويتغذى على الخشب. يلتهم الجريبل العيدان والجذوع التي تصل إلى البحر من مصبات الأنهار، مؤدياً وظيفة بيئية هامة. ولكنه قد يكون أيضاً مصدراً للإزعاج، حيث يلتهم خشب القوارب والأرصفة البحرية، مسبباً الكثير من الأضرار.
غير أن أحشاء الجريبل لا تحتاج إلى مساعدة آلاف الميكروبات لهضم الخشب، على عكس غيره من آكلات الخشب، مثل النمل الأبيض. حيث أن نظامه الهضمي عقيم، أي أنه خالٍ من التجمعات الميكروبية المعقدة التي تسكن أحشاء كائنات أخرى، بما فيها البشر. يقول العلماء أن فهم طريقة الجريبل في تفكيك الخشب قد يساعدهم على تطوير أساليب أفضل لتحويله إلى وقود. حالياً، يجب تفكيك الخشب المستخدم لتوليد الطاقة بعمليات مكلفة وتتطلب الكثير من الطاقة قبل أن يتم حرقه. وقد يحمل الجريبل مفتاح ابتكار طريقة أقل تكلفة وأكثر فعالية من ناحية الطاقة لاستخلاص الطاقة من الخشب.
يقول سيمون ماكوين-مايسون من قسم البيولوجيا في جامعة يورك: "نحن بحاجة ماسة إلى جميع الآليات التي يمكن أن تساعدنا على تخفيض الانبعاثات الكربونية. لم يعد أمامنا الكثير من الوقت حتى نحاول تفادي العواقب الوخيمة للتغير المناخي، وقد بدأ العد التنازلي".
لهذا السبب، كان ماكوين – مايسون يحاول مع فريقه البحثي فك لغز طريقة الجريبل في تفكيك الليجنين، وهو الغلاف القاسي الذي يحيط بالبوليميرات السكرية التي تؤلف الخشب. وقد اكتشفوا مؤخراً أن الجريبل يفرز إنزيمات تسمى هيموسيانين، وهي نفس البروتينات التي تكسب دم اللافقاريات لونه الأزرق، وتمكنها من اختراق الليجنين الذي يربط الخشب لالتهام السكر داخله. وقد تم نشر بحثهم في مجلة Nature Communications.
ينقل الهيموسيانين الأوكسجين في دم اللافقاريات كما يفعل الهيموجلوبين في دم الفقاريات. غير أن الهيموجلوبين يربط الأوكسجين عن طريق ذرات الحديد الموجودة فيه، وهو ما يكسب الدم لونه الأحمر، على حين أن الهيموسيانين يفعل ذلك عن طريق ذرات النحاس، وهو ما يكسب الدم لوناً أزرق. يقول ماكوين – مايسون: "لقد اكتشفنا أن الجريبل يمضغ الخشب محولاً إياه إلى قطع صغيرة للغاية قبل استخدام الهيموسيانين لزعزعة بنية الليجنين". يمكن أن يستخدم البشر الهيموسيانين للحصول على السكر من الخشب، إي إنتاج المزيد من الطاقة لدى حرق الخشب.
هذا خبر جيد من الناحية المناخية، حيث يعتبر الخشب من مصادر الطاقة ذات الأثر الكربوني المنخفض. فإذا قامت محطة توليد بحرق الأشجار لتوليد الكهرباء، وانطلق الكربون المخزن في جذوعها وأغصانها إلى الغلاف الجوي، فسوف يؤدي هذا إلى تفاقم التغير المناخي. ولكن إذا ظهرت أشجار جديدة مكان الأشجار القديمة، ستقوم بامتصاص الكربون من السماء. ولهذا، يمكن أن نعتبر العملية بأسرها حيادية كربونياً، على الرغم من أن الأمر ليس بهذه البساطة من الناحية العملية. حيث يتم صرف الكثير من الطاقة لقطع ونقل وحرق الأشجار التي لا يتم تعويضها في أغلب الأحيان.
غير أن ماكوين – مايسون يقول أن الكتلة الحيوية الخشبية تتضمن أيضاً بقايا المحاصيل مثل القش والأعلاف، وأوراق وسيقان المحاصيل الحقلية، مثل الذرة والذرة البيضاء وفول الصويا، والتي تترك عادة في الحقل بعد حصاد الحبوب. تتحلل هذه المواد في نهاية المطاف، مطلقة الكربون المخزن في داخلها إلى السماء، ومن الأفضل حرقها لتوليد الطاقة. ويقول ماكوين – مايسون أن هذا الوقود "المشتق من مواد المحاصيل الخشبية السيللوزية قد يؤدي إلى تخفيض الانبعاثات بنسبة 80% مقارنة بالوقود الأحفوري إذا أخذنا كامل دورة حياته بعين الاعتبار. ولكن المشكلة تكمن في أن الوقود الأحفوري أرخص ثمناً".
أجري البحث بالتعاون مع فريق من جامعات بورتسماوث وكامبريدج وساو باولو، وقد وجد الباحثون أن معالجة الخشب بالهيموسيانين يطلق أكثر من ضعف المقدار المعتاد من السكر، ما يعني أن حرق الخشب سينتج المزيد من الطاقة. ويضاهي الهيموسيانين في مفعوله المعالجات المسبقة التقليدية، والتي تعتمد على طرائق كيميائية حرارية مكلفة وتستهلك الكثير من الطاقة.
يشرح ماكوين – مايسون: "ضمن السياق الصناعي، نحتاج إلى استخدام درجات حرارة وضغوط عالية، وبتكاليف باهظة، للحصول على نفس تأثير الهيموسيانين. كما أنه يقوم بهذه المهمة ضمن الظروف الاعتيادية المحيطة، ويمكن أن يخفض من تكلفة المعالجات المسبقة على المستوى الصناعي".
لا تقتصر الكتلة الحيوية الخشبية على جذوع الأشجار، بل تتضمن أيضاً الأوراق والسيقان من المحاصيل الحقلية مثل الذرة والذرة البيضاء وفول الصويا، والتي تترك في الحقل بعد حصاد الحبوب.
يمكن أن يسهل الهيموسيانين من إنتاج الوقود الحيوي، مثل الخشب. يقول نيل بروس، وهو أيضاً من قسم البيولوجيا في جامعة يورك، ومؤلف مشارك في الدراسة: "على المدى الطويل، قد يكون هذا الاكتشاف هاماً في تخفيض مقدار الطاقة المطلوبة للمعالجات المسبقة المطلوبة لتحويل الخشب إلى وقود حيوي". ولكن حتى تنجح هذه الطريقة صناعياً، سيكون من الضروري إيجاد وسائل لتصنيع كميات هائلة من الهيموسيانين. ما زال هذا الأمر مستحيلاً حتى اللحظة، ولكن العلماء بدؤوا بالعمل عليه.
تقول المؤلفة الأساسية للبحث كاترين بيسر، وهي زميلة بروس وكوين – مايسون في نفس القسم، أن النتائج تعتبر مثالاً آخر على الدروس التي يستقيها العلم من العالم الطبيعي: "من المذهل أن نرى أساليب الطبيعة في التكيف مع التحديات، ويعتبر هذا الاكتشاف مثالاً إضافياً يدل على مدى التنوع الوظيفي لبروتينات الهيموسيانين".
إضافة إلى قيمة الجريبل في مساعدة العلماء على إنتاج الوقود الخشبي بشكل أكثر فعالية، يعتقد ماكوين - مايسون أن هذه المخلوقات القشرية الغريبة قد تقدم لباحثي البيولوجيا نظاماً هضمياً نموذجياً جديراً بدراسة مفصلة، ويقول: "هناك شيء غريب يحدث داخل الجريبل ويمنع الميكروبات من النمو. إن افتقار النظام الهضمي للجريبل إلى الميكروبات يعتبر أمراً غريباً للغاية بحد ذاته".