الكلاب أنقى من أن تنتمي إلى هذا العالم. هذه الحقيقة معروفة. ولو كانت التفسيرات الخارقة صحيحة، لكان بإمكاننا أن نقول أن الكلاب تنحدر من مكان خيالي حتى تستطيع أن تمنحنا كل هذا الفرح.
يحتاج الواقع إلى المنطق والدليل. والحقيقة أننا أوجدنا الكلاب تدريجياً من خلال اختيار غير واعٍ للصفات التي جعلت الذئاب البرية تبدو مع الوقت ذات شكل يشبه الجراء. نعم، فالكلاب الحالية هي جراء دائمة. هذا واضح جداً. ولكن الشيء الذي لسنا متأكدين منه تماماً هو كيف وأين حصل هذا. هل كان هناك كلب متميز أصبح الجد الأعلى المشترك لكل جراء المستقبل؟ هل نجح البشر في منطقة معينة بالاستعانة بالذئاب؟ أو هل حدث هذا مرات متعددة حول العالم بحيث تقاربت تلك الكلاب لتشكل نوعاً واحداً من سلالات متعددة؟
ولقد طَرحت دراسة جديدة نظرية، ولكنها لا تحسم الخلاف. حيث قام مجموعة من علماء الأحياء، وعلماء الوراثة، وعلماء الآثار بالبحث في بعض أقدم بقايا الكلاب، وقاموا بعمل تحليل جيني لتحديد مدى ارتباط كل منها بالآخر. وقد نشروا نتائجهم في يوليو 2017 في مجلة "الطبيعة - اتصالات".
ولكن دعونا أولاً نقوم بعرض خلاصة سريعة. لفهم هذه النتائج الجديدة عليك أن تفهم دراسة كبيرة أجريت العام الماضي عن أصول الكلاب.
اقترحت تلك الدراسة -التي كتبتها مجموعة مستقلة تماماً- فكرة جديدة في ذلك الوقت، مفادها أن استئناس الكلب حدث فعلياً مرتين. وهي تحاول إثبات وجود مجموعة من الكلاب في الشرق وأخرى في الغرب. وقد قدر الباحثون أنه قبل حوالي 6 آلاف إلى 14 ألف عام كان الانقسام بين مجموعات الكلاب موجوداً بالفعل. لكن وبما أن أقدم أحفورة للكلاب في كل من الشرق والغرب تعود إلى زمن أبعد، فهذا يعني أن مجموعات الكلاب كانت منفصلة فعلاً. أي أنها لم تكن أبداً مجموعة كبيرة من الكلاب التي انقسمت إلى قسمين مع مرور الزمن. وبدلاً من ذلك، فقد حصل الاستئناس مرتين، بحيث كان هناك قبل حوالي 6 آلاف إلى 14 ألف عام مجموعتان مختلفتان من الكلاب. وعندما هاجر البشر من الشرق إلى الغرب، اختلطت الكلاب الشرقية مع الكلاب الغربية، وحلت محل الكلاب الغربية بشكل كبير مكونة سلالة خليطة مفردة.
أما الدراسة الجديدة، فتحاول أساساً أن تثبت عكس هذه الفرضية. تفصل بين بقايا الكلب الألماني التي بحث فيها العلماء عدة آلاف من السنين، ولكن في ذلك الوقت كان هناك تغير وراثي طفيف.
وهذا يشير إلى وجود دليل بسيط على حدوث تعديل كبير عند الكلاب ناتج عن التمازج بين مجموعتي الكلاب المنفصلتين تماماً. كما تحاول هذه الدراسة إثبات أن دراسة العام الماضي قد أخطأت في تقدير الزمن الذي حدث فيه الانقسام بين الشرق والغرب. فهو لم يحدث قبل حوالي 6 آلاف إلى 14 ألف عام، ولكن يرجح أنه حدث قبل 17 ألف إلى 24 ألف عام.
إذا كان الانقسام قد حدث قبل هذه المدة الطويلة، فأنت لا تواجه مسألة وجود أحافير تعود إلى ما قبل انتشار الكلاب حول العالم. ولذلك أنت لا تحتاج إلى التفسير القائل بحدوث الاستئناس مرتين. وبدلاً من ذلك، سيكون لديك تفسير أبسط بكثير: حدث الاستئناس مرة واحدة قبل 20 ألف إلى 40 ألف عام، وبدأت الكلاب بالانتشار منذ ذلك الوقت، وزاد عدد الكلاب في الشرق والغرب لتتمايز الكلاب جينياً عن بعضها مع مرور الزمن، ولكن الهجرة من الشرق إلى الغرب سمحت للمجموعتين المتصلتين سابقاً بالاختلاط فيما بينهما مجدداً. وهذا ما يفسر عدم وجود تحول كبير في التركيب الوراثي للكلاب الغربية. ولم يكن هناك مجموعة جديدة من الكلاب الشرقية دخلت صراع التزاوج، ولكن الأمر كان مجرد لم شمل للعائلة الكبيرة.
ولا يعني هذا أن الخلاف قد حسم، وكل ما يعنيه أن هناك المزيد من المعلومات التي يجب أن يتم البحث عنها ومناقشتها. ولكن ألا ترون أن هذا أجمل ما في العلم؟ فبإمكاننا جميعاً أن نحب الكلاب ونقدّرها لطيبتها، وفي نفس الوقت نختلف فيما بيننا حول المنشأ الذي جاءت منه. قد يكون قوس التقدم العلمي طويلاً، ولكنه ينحني باتجاه الحقيقة.