عندما يخطر على بال الفنانة ماريا بينيل كوبو (Maria Peñil Cobo) فكرة جديدة لرسم لوحة، فهي تبدأ باختيار مجموعة من البكتيريا لتستخدمها بدلاً من لوحة الألوان. ربما تكون هذه البكتيريا من النوع السِّراتية الذابلة (Serratia marcescens)، والتي تأخذ مستعمراتها اللون الأحمر الكرزي اللامع، أو النوع ستربتوميسيس سيليكولور (Streptomyces coelicolor) التي لها لون السماء الزرقاء.
تستبدل بينيل كوبو قماش الرسم بأطباق بترية مملوءة بمادة تشبه الهلام وتحمل اسم الأغار، والتي تتغذّى عليها البكتيريا، ثم تغمس سلكاً معقماً باللهب بحذر (وهو ما يؤدي دور فرشاة الرسم) في مستعمرة بكتيريا السِّراتية الذابلة، وترسم شكلاً غير مرئي على الطبق البتري. في غضون أيام قليلة، تتكاثر هذه البكتيريا وتأخذ مستعمراتها شكلاً مرئياً بالعين المجردة يشبه حيوان قنديل الحر.
اقرأ أيضاً: دليلك المبسط لمعرفة البكتيريا وأثرها على الإنسان
لمسابقة الفنون الميكروبية السنوية
يقوم العلماء والفنانون مثل بينيل كابو باستنبات الأعمال الفنية هذه على الأغار في المختبرات تحضيراً لمسابقة الفنون الميكروبية السنوية التي تقيمها الجمعية الأميركية لعلم الأحياء الدقيقة. منذ إقامة هذه المسابقة لأول مرة عام 2015، ابتكر الفائزون من جميع أنحاء العالم صوراً لمختلف الأحياء من الجِمال إلى نبتة الهندباء البرية، وكانت جميع هذه الصورة مصنوعة من الميكروبات. تم الإعلان عن الفائزين بهذه المسابقة عام 2022 بتاريخ 30 نوفمبر/ تشرين الثاني، وقد قاموا برسم صور لعلماء الأحياء الدقيقة المفضلين لديهم، مثل روزاليند فرانكلين (Rosalind Franklin) وأودو بوجويد (Odo Bujwid).
هذه المسابقة مفتوحة للجميع، من العلماء والفنانين إلى غير الفنانين وحتى الأطفال. تقدم المختبرات المجتمعية ميكروبات معدّلة حيوياً لورش العمل الفنية العامة، ويستطيع أي أحد استخدام العُدد المنزلية لتخمير الأغار واستنبات البكتيريا الملونة. لا تتسبب معظم الميكروبات بالأمراض للبشر، ولكن يُفضّل عموماً أن يستخدم المبتدئون السلالات البكتيرية التي تم تعديلها أو اختيارها بعناية لتكون آمنة.
وفقاً لعالم الوراثة البكتيرية في شركة نيو إنغلاند بايولابز (New England Biolabs) في مدينة إبسويتش في ولاية ماساتشوستس، محمد بيركمن (Mehmet Berkmen)، الذي فاز في المسابقة إلى جانب بينيل كوبو في عام 2015، يعتبر الفن الميكروبي بسيطاً من بعض النواحي. يعلم علماء الأحياء الدقيقة منذ زمن طويل أن البكتيريا لها أشكال وألوان مختلفة. وقام الفنانون العلماء باستنبات البكتيريا الملونة لتصميم أعمال فنية منذ عشرينيات القرن الماضي. لا يختلف تصميم الروائع الميكروبية كثيراً عن الرسم، ولكن نظراً لأن البكتيريا هي خلايا حية، فمن الصعب التنبّؤ بالضبط بسلوكها في أثناء نموها.
يقول بيركمن إنه على سبيل المثال، إذا وُضعت بكتيريا حمراء اللون بجانب بكتيريا بيضاء اللون، يمكن أن تنتج البكتيريا البيضاء موادَّ كيميائية تمنع البكتيريا الأخرى من اكتساب اللون الأحمر. يضيف بيركمن قائلاً: "لذلك، يجب على الفنانين أن يطّلعوا على كيفية تفاعل البكتيريا ضمن مجموعة بالإضافة إلى التعلّم عن سلوكها الإفرادي".
اقرأ أيضاً: حيوانات السرقاط تعتمد على البكتيريا لتمييز روائح بعضها
الفن الميكروبي يتطلب معرفة بسلوك الميكروبات
لحل هذه المشكلة، يعدّل بعض الفنانين العلماء النوع نفسه من البكيتريا وراثياً لينتج ألواناً مختلفة. يتطلب هذا الحل أخذ مورثات من كائنات حية أخرى تعتبر ماهرة في تركيب بعض الألوان مثل الجزر، والذي يكتسب لوناً برتقالياً نتيجة لوجود جزيئات صغيرة (أو أصباغ) تحمل اسم البيتا كاروتين. يستطيع العلماء تحفيز الميكروبات على تركيب اللون البرتقالي من خلال نقل المورثات المسؤولة عن تركيب البيتا كاروتين من الجزر إليها.
يقول عالم الأحياء الاصطناعية في مركز لانغون هيلث الصحي في جامعة نيويورك، سودارشان بينغلاي (Sudarshan Pinglay): "ما نفعله هو أننا نقلّد بلا خجل ما تفعله الطبيعة".
يضيف بينغلاي قائلاً إن أفضلية تقليد الطبيعة بهذا الشكل تتمثّل في أنه يمنح الفنان المزيد من التحكم بالميكروبات التي يعمل باستخدامها، والتي تتميز بسلوك دقيق. يمكن أيضاً تعديل الميكروبات لتصبح آمنة بالنسبة للبشر، وهذا ما يدفع الفنانين العلماء لاستخدام البكتيريا المعدّلة بدلاً من الأنواع المستنبتة من البريّة. يضمن استخدام الكائنات الحية الدقيقة المعدّلة مخبرياً السلامة بشكل أفضل، كما أنه يتيح للعاملين في هذا المجال تكرار تصاميمهم بدقة أكبر، مثل اللوحة المقسمة إلى بكسلات والتي صممها مختبر بينغلاي كنسخة عن لوحة الصرخة، والمصنوعة بالكامل من الخميرة المعدّلة.
يُفضّل الفنانون العلماء الآخرون، مثل بينيل كوبو وبيركمن، استخدام الألوان الأصلية التي تنتجها الميكروبات في الطبيعة. بالإضافة إلى الحاجة إلى الاطلاع على كيفية تفاعل الأنواع المختلفة مع بعضها، يتمثل أحد الأسباب التي تجعل العمل في هذا المجال صعباً في أن الكائنات الحية الدقيقة تتطلب ظروفاً خاصة للعيش؛ إذ يفضّل بعضها درجات حرارة معينة، وهي تنمو بمعدلات مختلفة عموماً. لذلك، قد يضطر الفنانون إلى استنبات البكتيريا برتقالية اللون قبل بضعة أيام من استنبات البكتيريا الأرجوانية إذا كانت الأولى تنمو بمعدّل أقل. ومن ناحية أخرى، إذا رغب الفنان في المخاطرة، فيمكنه استنبات جميع الأنواع بالوقت نفسه.
يقول بيركمن: "لا توجد قواعد منزلة في هذا المجال"، لكن لتصميم أعمال فنية متقنة (بغض النظر عن الوسط الذي يتم العمل فيه)، "يجب أن يكون الفنان مطلعاً على بعض الأساسيات، وهذا ينتج عن الخبرة فقط"، حسب تعبير بيركمن.
بعد عقد من التعامل مع مختلف أنواع الكائنات الحية الدقيقة، أصبحت بينيل كوبو، والتي ليست لديها أي معرفة سابقة بعلم الأحياء الدقيقة، تعرف عن تفضيلات هذه الكائنات وتفاعلاتها أكثر مما يعرفه بيركمن نفسه. ويقول بيركمن إن معرفتها في هذا المجال قد تساعد العلماء وفنانين الميكروبات الآخرين في هذا المجال في المستقبل.
اقرأ أيضاً: لمَ نحن بحاجةٍ إلى وجود ميكروبات داخل وخارج أجسامنا لكي نعيش حياة صحية؟
ما التطبيق العملي للفن الميكروبي؟
أدت دراسة الأنماط الجميلة التي تشكلها الميكروبات إلى ابتكار تطبيقات علمية مفيدة. على سبيل المثال، أراد بيركمن تصوير نمو الميكروبات في الأعمال الفنية بشكل متقطّع، ولكنه واجه صعوبة في إنجاز ذلك دون تعريض الأغار للهواء، والذي يتسبب بتجفيف هذه المادة بسرعة. ستتوقف البكتيريا عن النمو وتموت في النهاية نتيجة جفاف الأغار، والذي يعتبر المصدر الأساسي للغذاء والماء بالنسبة لها. لذلك، قام بيركمن وفريقه لحل هذه المشكلة بتصميم حجرة مخصصة وبدؤوا بإضافة المكونات التي تساعد في ترطيب الأغار.
أتاحت تكنولوجيا التصوير الجديدة لبيركمن رؤية تغير لون بعض أنواع العصويّات من الأبيض إلى البرتقالي بعد 3 أسابيع من بدء استنباتها، وهو حدث لم يتم توثيقه من قبل لأن العلماء لم يراقبوا نمو هذه البكتيريا لفترة طويلة من الزمن من قبل. وصف بيركمن لاحقاً تصميم الجهاز الجديد والعملية التي أجراها في دراسة نُشرت في مجلة ذا جورنال أوف باكتيريولوجي (Bacteriology).
يقول بيركمن: "نتجت هذه الدراسة العلمية عن محاولة لإظهار جمال البكتيريا"، ويضيف قائلاً إنه يأمل أن يسهم الجهاز الذي طوّره في كشف المزيد عن سلوك البكتيريا.
يعتقد بيركمن أن الأعمال الفنية الميكروبية هي أدوات مفيدة في تحسين السمعة السيئة للبكتيريا. تأوي الأرض ملايين الأنواع من الميكروبات، ويقدّر البعض أن هذا العدد قد يصل إلى تريليون نوع. مع ذلك، لا يتسبب سوى عدد قليل منها فقط بالأمراض للبشر. يمكن أن تساعد هذه اللوحات الميكروبية في تعريف الأشخاص على الأنواع المفيدة من الميكروبات.
يقول بيركمن: "الميكروبات تشبه دببة الباندا؛ فهي جميلة وزغبية"، ويضيف: "من الصعب إيصال هذه الفكرة باستخدام الأفكار العلمية التقليدية. [لكن] الفن يعتبر لغة عالمية".
صور الأعمال الفنية الميكروبية مقدمة من الفنانين والجمعية الأميركية لعلم الأحياء الدقيقة، يمكنك رؤية المزيد من الأعمال على صفحة المسابقة في موقع هذه الجمعية من خلال زيارة الرابط هنا.