عندما كان أحد عصافير الحقل يحلق في سماء إلينوي المحملة بالدخان في السادس من مايو عام 1906، لم يكن لديه أي فكرة بأن نهايته قد اقتربت، كما لم يكن لديه فكرة عن أن ريشه يحمل بيانات علمية لا تقدر بثمن للباحثين بعد أكثر من قرن من الزمن.
تم اصطياد العصفور، وقتله، وتم وسمه بموقع موته وتاريخه، وبرقم مرجعي، وتم إرساله إلى المتحف الميداني للتاريخ الطبيعي، حيث انضم إلى مجموعة متنامية من الطيور الأخرى، والنباتات، والحيوانات، والتحف التي يبلغ عددها اليوم ثلاثين مليوناً.
ومع مرور الزمن، انضمت إلى هذا العصفور عصافير أخرى، وقبرات، وطيور طوهي، وطيور نقار الخشب. وقد تعرض بعضها للأجواء الملوثة بالسخام خلال رحلاتهم، بينما كان بعضها الآخر يحلق في أجواء نقية. وقد بلغ عدد العينات المسجلة التي توثق وجود تلوث في الهواء على مدى 135 عاماً 1300 عينة.
وعندما قام اثنان من طلاب الدراسات العليا في جامعة شيكاغو، الأول يدرس تاريخ الفن (كارل فوندر) والثاني متخصص في علم الأحياء التطوري (شين دوباي)، بإلقاء نظرة فاحصة على البقايا الزيتية السوداء على ريش الطيور، استطاعا توثيق انتشار التلوث في المجتمع منذ أواخر القرن التاسع عشر، مروراً بمرحلة الانهيار الاقتصادي الكبير التي بدأت عام 1929، ووصولاً لذروة التلوث مع تسارع الإنتاج الصناعي خلال الحرب العالمية الثانية، ثم مرحلة تراجع التلوث في الستينيات بعدما تفعلت المزيد من القوانين، وتحولت مصادر إنتاج الطاقة من المراجل البخارية الموزعة إلى محطات الطاقة الأكثر مركزية والغاز الطبيعي.
في دراسة نشرت في محاضر الأكاديمية الوطنية للعلوم أوائل أكتوبر 2017، أظهر تحليل فولدنر ودوباي للسخام الزيتي على ريش الطيور أن كمية الكربون الأسود في الهواء خلال العصر الصناعي كانت أعلى من مثيلها في الدراسات الأخرى التي اعتمدت على العينات اللبية الجليدية والسجلات التاريخية.
يقول فولدنر: "كنا نعلم من الروايات المنتشرة بأن تلوث الدخان في المناطق المدنية هو قضية خطيرة تواجهها هذه المدن داخل الحزام الصناعي للولايات المتحدة، لكن لم يكن لدينا طريقة كمية للنظر في الطبيعة الحقيقية لمشكلة الدخان مع مرور الوقت قبل منتصف القرن العشرين، مع دخول قوانين مراقبة الهواء حيز التنفيذ".
ولولا تراكم الطيور في مجموعات يتم جمعها عادة من نفس النوع، في أزمنة مختلفة، ومن مناطق مختلفة من البلاد، لما تمكن الباحثان من جمع هذه المعلومات.
وفي رسائل الشكر التي وردت في الدراسة نجد الملاحظة التالية: "نشكر كل من ساهم في الماضي والحاضر في مجموعات التاريخ الطبيعي، إن مشروعاً كهذا ما كان ليتم لولا التزام الأفراد بتأمين هذه المجموعات".
وتتعرض مجموعات التاريخ الطبيعي بانتظام لخفض التمويل، وهي معرضة لخطر قطع التمويل باعتبارها غير ضرورية، فهي غير مثيرة للاهتمام ولا تشغل الرأي العام، وغالباً ما تتطلب صيانة مكلفة ودائبة للحفاظ على العينات من عوامل الزمن، ولكنها ذات أهمية حيوية لمجتمع البحث.
وقد ربط تحليل قشور البيض في مجموعات المتحف في وقت سابق انخفاض أعداد الطيور الجارحة بزيادة انتشار مبيد (دي دي تي)، وساعدت عينات أخرى من طيور تعود لشمال غرب المحيط الهادي في تحديد ارتفاع المعادن الثقيلة مثل الزئبق في البيئة.
وتخفي المجموعات التي تم جمعها خلال الأجيال السابق اكتشافات علمية وألغازاً تنتظر الكشف عنها، ومن بين ملايين النباتات والحيوانات المعبأة بعناية في الأدراج والبراميل، لا يزال علماء الأحياء يكتشفون الأنواع التي كانت غير معروفة سابقاً. وهذا ما أشار إليه الصحفي إد يونغ في مجلة "ذي أتلانتيك" العام الماضي، حيث كتب: "إن جمع العينات يضحي بحياة عدد قليل من الكائنات، ولكنه في المقابل، يمنحنا معلومات لا يمكن الاستغناء عنها حول الأنواع المخفية والمجتمعات المتغيرة، وحول كيفية رد فعل الحياة البرية تجاه عالمنا المتغير، وحول كيفية حمايتها في المستقبل".
وتملك الاكتشافات التي تم الحصول عليها من مجموعات المتحف القدرة على المساعدة في حماية الناس، وليس فقط الحياة البرية. حيث يمكن أن تحتوي عينات أنسجة البعوض أو- حيوان الكوالا في إحدى الحالات- على الفيروسات، مما يساعد الباحثين في تتبع تطور مسببات الأمراض القاتلة، كما أنها يمكن أن تساعد في تحديد الأنواع الغازية قبل أن تصبح وباء يهدد الزراعة.
ثم هناك دور مجموعات الطيور، فلقد استنشق أجدادنا وأجداد أجدادنا السخام الذي تم جمعه من ريش الطيور في المتحف الميداني، وقد ساعد هذا على تحفيز الدعوات المحلية للعمل في البلديات، والتي أدت في النهاية إلى خفض استخدام الفحم البيتوميني الناعم في إشعال النار. وتقدم النتائج المزيد من الأدلة للمسؤولين لأخذها في الاعتبار عند تفكيرهم في وضع لوائح جديدة بشأن الانبعاثات أو، كما هو الحال حالياً، بإلغاء معايير الانبعاثات.
ويأمل فولدنر ودوباي في متابعة الدراسة على مجموعة الطيور، للوصول إلى نظرة أعمق ليس فقط إلى تاريخ الغلاف الجوي في البلاد، ولكن أيضاً إلى آثار الكربون الأسود على صحة الحيوان، فقد ظهرت علامات مرضية في الرئة بالكثير من العينات، وهو ما قد يوفر أدلة عن كيفية تأثر صحتها خلال تلك الأيام المشبعة بالسخام.
كما يأمل الباحثان أن تكون دراستهما بمثابة تذكير لكل من علماء الحاضر والمستقبل بأن هناك ثروة من المعرفة والاكتشافات تنتظرهم داخل هذه المجموعات، وهي ثروة ما كانوا ليتخيلوا وجودها عند جمعها.
يقول دوباي: "في بداية القرن العشرين، لم يكن ليتصور أي جامع للعينات أنه سيأتي وقت يحاول فيه اثنان من طلاب الدراسات العليا في شيكاغو بأن يستخدما ذلك الطائر لرسم صورة للظروف الجوية لذلك الزمن البعيد".