الكوكب الأحمر هو كوكب ميّت، ولكن ربما لم يكن كذلك دائماً. إذ وجدت المركبات الجَوّالة والأقمار الصناعية أدلة واضحة تبين أن السهول المريخية المغبرّة فاضت يوماً ما بالأنهار التي تجمعت لتشكل بحيرات كبيرة جداً، وربما صبّت في محيط عالمي. بدفئه ورطوبته، يمكن أن يكون المريخ قد وفّر مناخاً مناسباً للميكروبات الناشئة، مثل الأرض.
ولكن تغيرت الأمور كثيراً بعد مليارات السنين. فالأرض اليوم هو كوكب أزرق حيّ، والمريخ أصبح نسخة جرداء جافّة مما كان سابقاً. في حين أن معظم التجفاف نتج عن فقدان الكوكب الكارثي لمعظم غلافه الجوي، إلا أن المريخ احتفظ بالقليل من الماء، ولكن حتى هذا المخزون الضئيل ينفذ تدريجياً.
إذاً كيف مات المريخ؟
بعد رصد الطبقات الخارجية من الغلاف الجوي للمريخ بشكلٍ متكرر، وباستخدام مسابر مدارية، كشف الباحثون عن سر جديد في هذا اللغز. إذ أنهم اكتشفوا أن جزيئات الماء تتسرب بطريقة ما عبر حدٍ واقٍ شبيه بالغلاف الجوي بمعدل أكبر من المتوقع.
يقول شين ستون، وهو عالم كيمياء كوكبية في جامعة أريزونا ومؤلف بحث جديد نُشر في 13 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري في دورية ساينس: «هذا كان غير متوقعاً: يتحلل الماء في مواقع قريبة من حافة الغلاف الجوي، ويمكن أن يتسرب للخارج بسهولة».
في المراحل المبكرة للنظام الشمسي، المريخ الطفل لم يبدو مختلفاً عن الأرض الطفلة على الأرجح. كان لكل من الكوكبين نوى منصهرةً تتألف من معادن مشحونة كهربائياً. هذه المعادن كانت تتحرك بعنف في تيارات سائلة، مولدّة حقولاً مغناطيسية تحيط بالكوكبين، وتصد الرياح الشمسية و«الهجمات» الكهربائية الناتجة عن الاضطرام المتكرر لألسنة اللهب من الشمس خلال شبابها الهائج، حامية بذلك الأغلفة الجوية الوليدة لهذين الكوكبين. وتدفقت في ذلك الوقت المياه على سطحي المريخ والأرض مغلفة بطبقات سميكة من الهواء.
لكن المريخ كان أصغر حجماً من أن يمتلك فرصة حقيقية بأن يبقى صالحاً لاحتواء الحياة على المدى الطويل. إذ أنه بدأ يبرد بمعدل أسرع من الأرض. تجمّد لب الكوكب نتيجة لذلك، وانهار الحقل المغناطيسي الواقي، ونسفت الشمس معظم الغلاف الجوي للمريخ. معظم الماء السائل الموجود على سطح المريخ تبخر إلى الفضاء بعد ذلك بوقت قريب.
إعادة بناء هذا التاريخ الذي يمتد لـ 3 مليارات سنة كانت المهمة الأساسية للقمر الصناعي الذي يدعى «مارس أتموسفير آند فولاتايل إيفولوشن» (الغلاف الجوي للمريخ وتطوره التطايري) أو اختصاراً «مافين»، والذي يدور حول الكوكب الأحمر منذ 2014.
زوال الماء من المريخ
الآن، القياسات الجديدة التي وفرها القمر مافين أضافت تفاصيل جديدة لقصة زوال الماء من المريخ.
منذ أواخر ستينيات القرن الماضي، افترض علماء الكواكب أن مخزون المريخ الباقي من الماء كان آمناً نسبياً. إذ كانت تتحول كتل من الجليد سطحية، أو قريبة من سطح الكوكب بشكلٍ منتظم إلى جزيئاتٍ من بخار الماء، والتي كانت تصعد إلى الغلاف الجوي الرقيق حتى تبرد بما يكفي لتتكاثف مشكلة الغيوم. ويحمي حاجز مشابه من الهواء البارد -والذي يدعى «هايجروبوز»- الماء على الأرض عن طريق حصره داخل الغيوم ومنع الهيدروجين من أن يعوم بعيداً.
بعد ذلك أُطلق القمر مافين، والذي يغوص في حافة الغلاف الجوي أثناء دورانه حول المريخ، ويجمع بشكلٍ مباشر عينات من الشوارد التي تأتي من مياهه. بإعادة بناء الجزيئات، تفاجأ ستون وزملائه أن الكثير من جزيئات الماء كانت تهب مع الرياح على ارتفاع تجاوز 144 كم فوق سطح الكوكب، وهو ارتفاع أعلى من طبقة الهايجروبوز. يتحتم على الماء الموجود على هذا الارتفاع من الغلاف الجوي أن يتحلل إلى جزيئات أكسجين وهيدروجين، الأولى تستمر بالتحلل، بينما الثانية خفيفة بما يكفي لتتسرب إلى خارج الكوكب للأبد.
عن طريق تحليل كيفية تغيّر مخزون الغلاف الجوي المريخي من الماء بمرور الزمن، كشف الفريق أيضاً عن دليلين قد يبينا سبب امتلاك المريخ لطبقة هايجروبوز سيئة لهذه الدرجة.
أولاً، لاحظ القمر «مافين» أن الغلاف الجوي للمريخ يكون أكثر جفافاً في الشتاء وأكثر رطوبة في الصيف. ثانياً، دار هذا القمر حول المريخ ما يكفي من الوقت ليشهد عاصفتين غباريتين محليتين. وخلال هاتين العاصفتين، ازداد محتوى المريخ من الماء. وكان القمر الصناعي هذا يعمل خلال عاصفة غبار في يونيو/ حزيران سنة 2018 (وهو حدث يقع مرة كل عقد، عنيف لدرجة أنه دمر مركبة أوبورتيونيتي) سبّبت ارتفاع مستويات الرطوبة في الطبقات العليا من الغلاف الجوي لتصل لما يقارب 20 ضعف المستويات الطبيعية.
وفقاً لستون، هذه الأنماط تشير بشكلٍ واضح إلى أن طبقة الهايجروبوز الخاصة بالمريخ تتفكك بشكل منتظم نتيجة لازدياد حرارة الغلاف الجوي، وخاصة عند اقتراب الكوكب من الشمس خلال أشهر الصيف، أو حتى عندما تمتلئ أجوائه بالغبار. أكدت قياسات مستقلة أنجزتها مركبات فضائية أخرى أن فترات الرطوبة التي يمر بها الغلاف الجوي تترافق مع موجات الحر التي يمر بها.
وفي حين أنه لا يفترض أن تكون طبقة الهايجروبوز الخاصة بالمريخ قوية لهذه الدرجة، إلا أن القياسات التي قام بها قمر «مافين» الصناعي؛ تشير إلى أن هذه الطبقة تُسرّب أكثر بكثير مما كان متوقعاً. خلال المليار سنة الماضية، الاحترار الموسمي، وعواصف الغبار المحلية السنوية، والعواصف الخارقة العقدية، كلها سببت فقدان المريخ لكمية من الماء تكفي لتغطي سطحة بمحيط عالمي عمقه حوالي نصف متر، وذلك وفقاً لتقدير الباحثين. وحسب ستون، هذه نسبة مئوية صغيرة من كمية الماء التي فقدها المريخ عبر تاريخه (والتي ستكون كافية لتغمر الكوكب بمحيط عمقه آلاف الأمتار). وهذه هي الطريقة الأساسية التي يجف فيها هذا الكوكب حتى اليوم.
بينما يمكن أن يكون جفاف المريخ قضى على أي شكل من الحياة ظهر فيه، تستطيع الكائنات الأرضية أن تكون مطمئنة من أن مصيرنا سيكون مختلفاً. الأرض تفقد جزيئات الماء بشكلٍ مستمر بسبب ظاهرة «انفلات الغلاف الجوي»، لكنها تفعل ذلك بمعدل أبطأ بكثير من أن يشكل أي قلق، وذلك وفقاً لستون. بدلاً من ذلك، لا زال يملك كوكبنا 2 مليار سنة قبل أن ينفذ مخزونه من الماء. وعندها، ستبخّر الشمس التي يزداد سطوعها محيطاتنا، رافعة دراجة حرارة الكوكب بضع مئات من الدرجات.
هذا المقال محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يُعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً