لماذا تضررت المباني جرّاء الزلزال الذي ضرب سوريا وتركيا؟

لماذا تضررت المباني جرّاء الزلزال الذي ضرب سوريا وتركيا؟
حقوق الصورة: غيتي إيميدجيز.
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

وسط تشكل أنقاض إطارات الأبواب المكسورة وشظايا النوافذ والأعمدة الخرسانية في مدينة غازي عنتاب، وهي مدينة تركية معروفة باحتوائها على الحصون والقلاع التي تعود لعصر الإمبراطورية البيزنطية، نشر مستخدمو مواقع التواصل الاجتماعي صوراً لمبنى واحد على وجه الخصوص ظل واقفاً بعد الزلازل التي ضربت البلاد في شهر فبراير/ شباط 2023. هذا المبنى الذي صمد في وجه الزلازل واشتهر على مواقع التواصل الاجتماعي هو مكتب متين يبدو حتى إن الزجاج فيه لم ينكسر بعد وقوع زلزالين متتاليين بلغت قوتهما 7.8 و7.7 على مقياس ريختر.

صمم اتحاد غرف المهندسين والمعماريين الأتراك هذا المبنى، وحذّر المهندسون في هذا الاتحاد الحكومة الوطنية والمسؤولين المحليين لسنوات من أن الزلازل ليست ما يتسبب في موت الأشخاص، بل المباني المشيدة بمعايير رديئة. تبين فيما بعد أن هذه التحذيرات كانت بعيدة النظر بالفعل. أدّى كل من الزلزال الذي وقع بتاريخ 6 فبراير/ شباط 2023 والهزات الارتدادية التي تبعته في تركيا وسوريا إلى انهيار أكثر من 160 ألف منشأة أو تعرضها لأضرار جسيمة، وكانت أغلبية المباني المتضررة من الشقق السكنية التي يعيش فيها جزء كبير من سكان البلدين، ما أدى إلى وفاة أكثر من 40 ألف شخص.

لفت انهيار بعض المباني دون غيرها الانتباه إلى أهمية مجال العمارة المقاومة للزلازل وقوانين البناء في سوريا وتركيا. تحدّث موقع بوبيولار ساينس مع المهندسين الإنشائيين الذين يدرسون كيفية تصميم المباني التي تصمد في وجه الزلازل لفهم ما يزيد من قدرة بعض التصميمات على إنقاذ حياة السكان.

كيف يمكن تصميم المباني المقاومة للزلازل؟

يقول أستاذ الهندسة في جامعة نورث إيسترن في ولاية ماساتشوستس الأميركية، مهرداد ساساني (Mehrdad Sasani)، الذي يبحث في مجال نمذجة المباني المقاومة للزلازل، إن العامل الأهم عند تشييد المباني القادرة على تحمل الزلازل هو جعلها قوية وقابلة للتشوّه، ما يعني أنها يجب أن تكون متينة ولكنها قابلة أيضاً للانحناء والتأرجح مع تحرّك الأرض تحتها دون أن تنهار.

يعني ذلك على المستوى الدقيق أن المباني المصنوعة من الخرسانة والحجار والطوب والمواد المشابهة يجب أن تحتوي على قضبان التسليح الحديدية لزيادة متانتها. يجب على المهندسين تصميم عوارض الأبنية وأعمدتها وبنائها بدقة لجعلها قابلة للتشوّه، كما يجب عليهم اختيار مواقع القضبان الفولاذية بطريقة محددة.

تحمل هذه الآلية اسم التفصيل الزلزالي، ويتم التركيز فيها على المناطق التي يمكن أن تتعرض المباني فيها لضغوط أكبر جراء الهزات الشديدة، إذ تحتوي القضبان المعدنية على العديد من المفاصل التي تسهم في تثبيت الأعمدة وتُتيح لها التمايل وامتصاص الضغط أيضاً. تُخفى هذه القضبان داخل الأعمدة والعوارض في الأبنية المكتملة، وغالباً ما توضع خلف جدران الشقق السكنية.

اقرأ أيضاً: الموجات الزلزالية تكشف أسرار أعماق الأرض

مع ذلك، يجب على المهندسين أخذ عدد من العوامل الأخرى في الاعتبار قبل بناء الأعمدة وإضافة القضبان التي تعزز استقرار البناء، مثل الأرض التي يتم إنشاء البناء فوقها، إذ يصممون الأبنية بناء على شدة الاهتزاز المحتمل للأرض تحتها، بدلاً من أخذ شدة محددة للهزات الأرضية أو رقم معين على مقياس ريختر في الاعتبار. يقول ساساني: “كلما ازدادت شدة اهتزاز الأرض، يزداد الضرر الناجم عن الاهتزاز. لا يتعلق ذلك بشدة الزلزال بشكلٍ مباشر، إلا أنها تؤثّر في درجة اهتزاز الأرض بلا شك،

وحينئذ ستبدأ المباني بالتحرك، وإذا كانت هذه الحركة أكبر من قدرة المباني على التحمل، فيمكن أن تنهار. هذا الاهتزاز هو العامل الذي نأخذه في الاعتبار عند تصميم المباني”.

مهندس من بلدية مدينة إسطنبول التركية يتفقد عمود شقة في 10 مارس/ آذار 2023 في المدينة. تلقّت البلدية منذ وقوع الزلزال الذي بلغت قوته 7.8 درجات في 6 فبراير/ شباط 2023 أكثر من 140 ألف طلب من السكان الراغبين في اختبار السلامة الإنشائية للمباني التي يعيشون فيها. أوزان كوسيه/ وكالة فرانس برس عن طريق غيتي إميدجيز
مهندس من بلدية مدينة إسطنبول التركية يتفقد عمود شقة في 10 مارس/ آذار 2023 في المدينة. تلقّت البلدية منذ وقوع الزلزال الذي بلغت قوته 7.8 درجات في 6 فبراير/ شباط 2023 أكثر من 140 ألف طلب من السكان الراغبين في اختبار السلامة الإنشائية للمباني التي يعيشون فيها. أوزان كوسيه/ وكالة فرانس برس عن طريق غيتي إميدجيز

أهمية قوانين البناء في إنقاذ الأرواح

يعتبر تصميم المباني واحداً من عاملين أساسيين يسهمان في جعل المباني التي يسكنها البشر أكثر أماناً خلال الزلازل. من المرجح أن أحد الأسباب الرئيسية التي جعلت الزلزال الذي وقع في مدينة غازي عنتاب التركية يتسبب في الكثير من الوفيات هو أن هناك شركات إنشائية لم تتبع قوانين البناء التركية التي يقول ساساني إنها تكفي لجعل المباني مقاومة للزلازل.

انهارت 3 مبانٍ سكنية تم بناؤها في عام 2019 وذكرتها هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) في تقرير صحفي بسبب الزلزال الأخير، على الرغم من أنه يفترض أنها صُممت وفقاً للقوانين التركية. وفقاً لرئيسة اتحاد غرف المهندسين الأتراك، بيلين بينار غيريتليوغلو (Pelin Pınar Giritlioğlu)، أصدرت السلطات التركية مجموعة من قرارات العفو تحمل اسم قرارات العفو الإنشائي شملت ما يصل إلى 75 ألف مبنى في جنوب تركيا، ويستطيع مالكو العقارات وفق هذه القرارات دفع رسوم لإعفائهم من المخالفات في البناء.

يقول ساساني: “لا يمكننا تصميم مبانٍ مضادة للزلازل. بل ما يمكننا فعله هو جعل هذه المباني مقاومة للزلازل. حتى لو اتبعنا المعايير وقوانين البناء، احتمال الفشل وانهيار المباني قائم دائماً، ولكنه احتمال قليل. لا شك بأن بعض المباني المصممة وفقاً للقوانين سينهار . ولكن لن يكون من المنطقي أن ينهار هذا العدد الكبير من المباني في تركيا وسوريا لو كانت مصممة وفقاً للقوانين”.

أُضيفت إجراءات الأمان الخاصة بمقاومة الزلازل إلى قوانين البناء السورية لأول مرة في عام 1995، ثم خضعت هذه الإجراءات للتحديث في عام 2013. لكن وفقاً لأستاذ الهندسة في الجامعة الأميركية في بيروت والعمدة السابق لمدينة بيروت، بلال حمد، تمر سوريا حالياً بحرب استمرت 12 عاماً، والقصف الذي تعرضت له المناطق السكنية جعل الأبنية أكثر عرضة للانهيار خلال الزلزال. درس بعض طلاب حمد شدة انفجار ميناء بيروت الذي وقع في عام 2020 نتيجة احتراق كميات كبيرة من نترات الأمونيوم المخزنة لفترة طويلة وشدة الزلازل للمقارنة بينهما.

يقول حمد: “قصف المباني هو تفجيرها. وهي عملية تولد الطاقة. لاحظ الطلاب أوجه شبه بين الانفجار والزلازل، لأن الانفجار الكيميائي مماثل تقريباً للزلازل. هذه الانفجارات مدمرة أكثر من الزلازل لأن طاقة الزلازل تنتشر تحت الأرض، حيث تخمدها التربة، أما الانفجارات الكيميائية فتحدث فوق سطح الأرض، حيث لا يوجد ما يخمدها”.

آليات مستقبلية تفيد البلدان الفقيرة بالموارد

يأخذ المهندسون في الاعتبار نوعين من الأبنية عند التخطيط للزلازل، الأبنية القديمة والأبنية الحديثة. تُعرَّف الأبنية القديمة على أنها التي تم إنشاؤها قبل أن يطبق المهندسون علم الزلازل في صياغة قوانين الإنشاء الأكثر شيوعاً. يقول ساساني إنه تم تحديث معظم قوانين البناء الأميركية التي يتم تحديدها محلياً بنتائج الأبحاث الحديثة حول القوى الزلزالية وتقنيات الإنشاء في سبعينيات القرن العشرين. تعتبر الأبنية التي تم إنشاؤها قبل هذه الفترة أبنية قديمة.

يقول ساساني إن أغلبية الدول تطبّق قوانين البناء الأميركية، ولكن تبنّي الدول الأخرى هذه القوانين يستغرق الوقت، أي أنه من المحتمل أن تكون هذه الدول قد تبنّت القوانين الأميركية بعد سبعينيات القرن الماضي بكثير. على سبيل المثال، يقول حمد إن القوانين اللبنانية لم تفرض إجراءات الأمان الخاصة بمقاومة الزلازل في مجال تشييد الأبنية حتى عام 2005.

بالإضافة إلى ذلك، استغرق الأمر 7 سنوات أخرى حتى طالبت الحكومة شركات الإنشاء بتوظيف المكاتب الفنية لضمان إنشاء الأبنية وفقاً للقوانين المعمول بها. ادّعى الرئيس التركي في أعقاب الزلزال الأخير أن 98% من الأبنية التي انهارت أُنشئت قبل عام 1999، ولكن شكك الخبراء في دقة هذه النسبة؛ إذ قالوا إنها استُخدمت لإبعاد اللوم عن سياسة العفو الإنشائي التي طبقتها البلاد. لذلك، ووفقاً لساساني، يجب إصلاح الأبنية القديمة وتجديدها على الأرجح، وخصوصاً إذا احتوت على الحجارة والطوب والمواد الشبيهة.

يقول ساساني إن العمال يستخدمون مادة المِلاط للوصل بين قطع الطوب وما شابهها من مواد، ما يجعلها أكثر عرضة للتضرر بسبب الزلازل. تعتبر الأبنية التي تحتوي على الحجارة والطوب أكثر شيوعاً في النصف الجنوبي من العالم، حيث تكون الأبنية أقدم، بينما تحتوي الولايات المتحدة على عدد أكبر من البنى المبنية من الخشب، التي تعتبر أقل عرضة للضرر بسبب الزلازل.

يمكن إصلاح هذه المباني الأقدم وتجديدها بتطبيق آليات مثل إضافة ما يسميه المهندسون جدران القص بهدف زيادة صلابة الأبنية. لكن إصلاح الأبنية وتجديدها مكلف، وأحيانا، يكون هدمها وإعادة تشييدها أقل تكلفة. يقول ساساني: “يجب علينا التفكير في الأولويات الأهم في حال عدم توفر ما يكفي من الموارد. إذا لم تتعرض دولة ما لزلزال منذ عقود عديدة، فلن تفكر في تصميم الأبنية المقاومة للزلازل وتعدها أولوية”. (كانت آخر مرة تكبّدت فيها كل من تركيا وسوريا خسائر بشرية جسيمة جراء الزلازل في تسعينيات القرن الماضي).

اقرأ أيضاً: هل استطاع فرانك هوغربيتس فعلاً التنبؤ بالزلزال الذي أصاب تركيا وسوريا؟

ما الإجراءات التي يجب أن تتخذها الدول الفقيرة بالموارد في هذه الحالة؟ وفقاً لساساني، فحص المباني ليس مكلفاً، وهذه إحدى الإجراءات الأولية التي يمكن أن تتبعها هذه البلدان. يقول ساساني: “أقل ما يمكن أن تفعله الدول الأقل نمواً هو تطبيق القوانين والمعايير. سيقلل ذلك من خطر تكبّد الخسائر الجسيمة مثل الخسائر الناجمة عن الزلزال الأخير”.

بالإضافة إلى ذلك، يقول أستاذ الهندسة المعمارية في الجامعة الأميركية في بيروت، كريم نجّار، الذي يبحث في استراتيجيات التصميم المستجيب للمناخ (أي التصميم الذي تؤخذ ضمنه الظروف الجوية الخاصة بالمناطق المحددة في الاعتبار)، إن تصميم المباني بطريقة تجعلها مقاومة للزلازل ليس مكلفاً كثيراً أيضاً. يضيف نجار قائلاً إن تكلفة إضافة العوارض والأعمدة لتقوية البنية التحتية للمباني تمثّل نسبة ضئيلة من تكلفة التصميم. قال نجّار لموقع بوبيولار ساينس في رسالة عبر البريد الإلكتروني: “تتراوح تكلفة هذه الإجراءات بين 5 و10% من تكلفة الأبنية. تُخفّض نسبة الإسمنت في الخرسانة عادة لتخفيض التكلفة”، ما يجعل الأبنية أقل متانة وأقل مقاومة للزلازل بالنتيجة.

اقرأ أيضاً: كيف تشكل الزلزال الذي ضرب الحدود التركية السورية؟ ولماذا كان بهذه الشدة؟

يقدّر حمد أن تكلفة هيكل البناء (أي سماته الخارجية مثل الهيكل المعدني والأساس والجدران الخارجية) الواحد تمثّل نسبة 20% تقريباً من تكلفة المشروع بأكمله. إذا صُممت الأبنية بطريقة تجعلها مقاومة للزلازل، يمكن أن ترتفع هذه النسبة بمقدار 3-5% فقط. يقول حمد: “ستتضمن الأبنية عندها جدران القص والمزيد من بنى التسليح والعوارض والأعمدة والأساسات. ما المانع في ذلك؟ في النهاية، عامل الأمان أهم من إجراءات الرفاهية مثل إعادة تصميم الحمامات”.