غيّرت إنارة المنازل ليلاً حياة البشرية، وغيّرت ارتباط أنشطة الإنسان بالنهار فقط، وبضوء الشمس، فقد قدم لنا توماس إديسون المصباح الكهربائي ومن ثم وضع أول نظام إضاءة كهربائي أضاء منازلنا وشوارعنا، وليس من المبالغة القول إن المصباح المتوهج الذي اخترعه غيّر الحضارة الإنسانية.
كيف أنار البشر لياليهم قبل الكهرباء؟
أشعل لهيب حرق الأخشاب شعلة الإنارة الأولى، وكان على شكل مشاعل أضاءت الكهوف والقصور، وشكّلت "مصابيح" الإضاءة البدائية الأولى. وبعد أن أصبح بإمكان البشر استخراج الدهون والزيوت من مصادر مختلفة، صبّوها في أصداف أو أوانٍ فخارية ووضعوا فيها فتيلاً من الأعشاب.
بقيت وسائل الإضاءة هذه على حالها تقريباً حتى بدايات القرن التاسع عشر، لكن الأوعية أصبحت معدنية والفتائل خشبية. استعمل الناس أيضاً الشموع أو شمع العسل منذ القرن الرابع بعد الميلاد.
في عام 1784، اخترع أَمي آغراند Ami Agrand مصباح زيت، لكنه لا يصدر دخاناً، وتعادل إضاءته 7-8 شموع، ويستخدم فتيلاً أسطوانياً من القماش داخل مدخنة زجاجية محكمة، بحيث يتدفق الهواء داخل الفتيل وخارجه.
اقرأ أيضاً: ماري كوري: ما الذي قدمته أولى الفائزات بجائزة نوبل للإنسانية؟
في عام 1846، تمكّن البشر من الحصول على الكيروسين من الفحم لأول مرة، واستخدموه لإضاءة المصابيح بدلاً من الدهون. وبعد بضع سنوات، وتحديداً في عام 1853، أُنتِج الكيروسين من النفط، وتم تزويد هذه المصابيح أحياناً بعاكسات زجاجية من المعدن، أو تم وضعها أمام المرايا لزيادة شدة إضاءتها. ثم استخدم البعض مصابيح الغاز، وهو غاز الطهي ذاته الذي نستخدمه اليوم، وكان مصباح غاز واحد كافياً لإنارة غرفة بأكملها لأول مرة.
مساوئ وسائل الإضاءة القديمة
جميع وسائل الإضاءة تلك لم تكن جيدة بما يكفي، فلكل منها مساوئه، فقد كانت إضاءة الشموع ضئيلة للغاية، وكان يتطلب الأمر 100 شمعة لتساوي إضاءة مصباح حديث. وهذا ما لم يكن بإمكان أحد الحصول عليه إلا إذا كان ثرياً.
أما مصابيح الدهون فقد كانت كريهة الرائحة، وتسبب تهيّج العينين، وكان يمكن أن تسبب مصابيح الكيروسين وغيرها التي تعتمد على الفتيل الحرائق في المنازل لأسباب عدة، أما مصابيح الغاز فكان من الممكن أن تسبب النعاس إذا نسي السكان تهوية المنزل.
وعلى الرغم من ذلك، استمر معظم البشر بالاعتماد على مصابيح الكيروسين والغاز حتى توفرت الكهرباء ومصباح إديسون.
اختراعات متتالية أوصلت إديسون لإضاءة المصباح الكهربائي الأول
في مطلع القرن التاسع عشر، ابتكر المخترع الإيطالي أليساندرو فولتا مفاهيم رائدة في التحكم في التيار الكهربائي، وبلغت ذروتها في "الكومة الفولتية" التي كانت تعمل بشكل فعّال كبطارية.
ألهمت الكومة الفولتية الكيميائي البريطاني همفري ديفي لتصميم بطارية خاصة به واستخدامها لتشغيل مصباح القوس، الذي ينتج ضوءاً في حوجلة زجاجية، وذلك في عام 1806، أي قبل اختراع توماس إديسون لمصباحه بسبعين عاماً. لكن ضوء هذا المصباح كان ساطعاً للغاية ويصعب التحكم فيه، ويتطلب قدراً كبيراً من التيار الكهربائي، ولا يناسب الاستخدام المنزلي، على الرغم من أنه أضاء بعض الشوارع.
وهنا أدرك المخترعون أن الطريق المؤدي للحصول على مصباح متوهج دون أن يحترق جرّاء تعرضه لتيار كهربائي يتمثل بالحصول على خيط "سلك" مناسب. لذلك استخدم العالم الاسكتلندي جيمس بومان ليندساي مصباحاً من خيوط النحاس في عام 1835 لكنها احترقت سريعاً، بينما استخدم العالم البريطاني وارن دي لا رو خيوط البلاتين غالي الثمن في عام 1840.
اقرأ أيضاً: اليوم العالمي للعدد «باي»: ما هو ولماذا يتم الاحتفال به؟
اختراع إديسون لمصباح الضوء العملي
سنوات طوال قضاها توماس إديسون في تجاربه قبل نجاحه في الحصول على مصباح كهربائي عملي ومنزلي، وطوّر بدايةً خيوطاً قطنية (أساسها الكربون) عالية المقاومة، تشتعل لأكثر من 14 ساعة تحت الاختبار، وتستهلك كهرباء أقل بكثير من المصابيح الأخرى. استفاد إديسون أيضاً من مضخة الهواء سبرينغل Sprengel، التي اختُرعت في عام 1877، والتي حسّنت بشكل كبير تقنية مضخة التفريغ وسمحت له بتفريغ الحوجلة الزجاجية من الهواء، وبالتالي إضاءة المصباح الكهربائي لمدة طويلة، دون استهلاك الكثير من الكهرباء. استمرت تجارب إديسون حتى توصل إلى التركيبة المثالية للمواد المستخدمة في صناعة المصباح. وبذلك، حصل إديسون على أقدم براءتي اختراع للمصابيح المتوهجة، الأولى في عام 1879 والثانية في عام 1880.
بحلول بداية عام 1880، كان إديسون يعرض مصباحه على حشود من الزوار الذين توافدوا على مينلو بارك. وبحسب صحيفة نيويورك هيرالد، توافد المئات في قطارات من جميع الاتجاهات يوم رأس السنة، على الرغم من الطقس العاصف، لرؤية المصابيح الكهربائية المضاءة، فقد أُضيئ المختبر ببراعة بخمسة وعشرين مصباحاً، بالإضافة إلى ثمانية وعشرين آخرين موزعين في الشارع المؤدي إلى المستودع وفي بعض المنازل المجاورة، وقد تم شرح النظام بأكمله بالتفصيل من قِبل إديسون ومعاونيه، وتم إخضاع الضوء لمجموعة متنوعة من الاختبارات.
اقرأ أيضاً: 6 ابتكارات كانت الطبيعة مصدراً لوجودها
على الرغم من ذلك، وجد إديسون أن نوع الكربون المستخدم غير مناسب لتشغيل المصباح تجارياً، وكلّف كيميائياً آخر هو الدكتور أوتو موس الذي كان يعمل معه، ليبحث عن نوع آخر من الكربون، وتبيّن له أن الخيزران هو أفضل مادة للمصباح التجاري.
في الوقت ذاته الذي أضاء فيه إديسون منطقة وول ستريت في نيويورك في الولايات المتحدة الأميركية، كان الإنجليزي جوزيف سوان يركز على المصابيح الكهربائية التي يمكن أن تكون فيها خيوط الورق المتفحمة (أي أن أساسها الكربون أيضاً) مصدر الضوء. وبالفعل، حصل على براءة اختراع بريطانية لمصباح متوهج في 1880. وقد أصبح منزله أول منزل مضاء بالكامل بالإضاءة الكهربائية، وتلاه عدة مبانٍ في لندن.
اشتد النزاع بين إديسون وسوان لتحديد أيهما يعود له الفضل باختراع المصباح الكهربائي والحصول على براءة اختراعه، لكن في النهاية دمجا أعمالهما في شركة بريطانية تسمى إديسوان Ediswan.
اقرأ أيضاً: 5 اختراعات معاصرة من قصص الخيال العلمي
لماذا ارتبط اسم إديسون بالمصباح الكهربائي إذاً؟
على الرغم من جهود العلماء والمخترعين التي أوصلت إديسون لاختراع المصباح الكهربائي، فإن هذا الاختراع ارتبط به فقط، وذلك بسبب تركيزه على التطبيق العملي والاستخدام الواقعي. وقد استطاع تجاوز جميع المساوئ التي ارتبطت بوسائل الإضاءة السابقة، وكان مصباحه أول ضوء كهربائي له تطبيق جماعي حقيقي.
تنتهي قصتنا في 19 يناير/ كانون الثاني من عام 1883، عندما وضع إديسون أول نظام إضاءة كهربائي يستخدم الأسلاك العلوية في الخدمة، في منطقة روزيلي Roselle في ولاية نيوجيرسي الأميركية، وكان هدفه إثبات أنه يمكن إضاءة مجتمع بأكمله بالكهرباء.