كيف وُلد العصر الذهبي للجغرافيا على يد الإدريسي؟

كيف وُلد العصر الذهبي للجغرافيا على يد الإدريسي؟
حقوق الصورة: بوبيولار ساينس العربية. تصميم: مهدي أفشكو.
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

 في عالم تربطه تقنيات الاتصال والنقل الحديثة، يمكن القول إن العالم كما وصفه الكاتب والفيلسوف الكندي مارشال ماكلوهان “قرية صغيرة”. ومع ذلك، منذ بضعة قرون، كان يُنظر للعالم على أنه مكان شاسع وغامض، نُسجت حوله القصص والغرائب عن أفاعي البحر والغول العملاق.

 إلا أن شاباً عربياً عاش في القرن الثاني عشر الميلادي، لم تعجبه تلك الافتراضات الخيالية وغير المنطقية في معظم الأحيان، حاول أن يوضح الرؤية ويرسم معالم للأرض، ويزيل الغموض عنها. إنه الإدريسي، صانع أول مجسم للكرة الأرضية، وأول من استطاع وصل الواقع المكاني والجغرافي.

فمن هو الإدريسي وكيف أسهم في إرساء قواعد علم الجغرافيا كما نعرفه اليوم في عصر لم يكن فيه نظام تحديد مواقع عالمي أو حتى خرائط للعالم؟

اقرأ أيضاً: كيف أنار توماس إديسون عالمنا باختراعه أول نظام إضاءة كهربائي؟

مَن هو الإدريسي؟

ولد الإدريسي في مدينة سبتة المغربية عام 1100 للميلاد، وهو أبو عبدالله محمد بن محمد بن عبدالله بن إدريس الحساني المعروف في الغرب باسم الشريف الإدريسي. كرّس حياته المبكرة للسعي وراء المعرفة؛ إذ درس في قرطبة في الأندلس (إسبانيا اليوم)، والتي كانت مركزاً للتعلم والابتكار والفلسفة والطب وعلم الفلك وعلم النبات. سافر لاحقاً إلى شمال إفريقيا وإسبانيا وفرنسا وآسيا الصغرى (تركيا).

اهتم الإدريسي بما يسميه “البحار والخلجان والدول والمناطق”، ودرس روايات الرحلات الوصفية للمسافرين الذين جاؤوا قبله.

نتيجة لذلك، وفي عام 1144 للميلاد، دعاه ملك صقلية النورماندي روجر الثاني للعيش في بلاطه، مقابل أن يرسم له مخططاً تفصيلياً للأرض كما كانت تُعرف حينها، مع شرح دقيق للمناطق والثقافات والمناخات المختلفة والجغرافيا والأجناس والبحار ومسارات الرحلة والمسافات. ومن هناك بدأت شهرته وكانت نقطة التحول في حياته.

الإدريسي في مهمته

في صقلية، استخدم الإدريسي البيضة ليصف للملك موقع الأرض في الفضاء، وفي تلك اللحظة، طلب منه الملك روجر الثاني أن يصنع له خريطة للعالم، ووعده بتقديم التمويل والدعم اللازمين لإنجاز المهمة، فما كان من الإدريسي إلا أن وافق وباشر بمهمته.

شكّل الإدريسي فريقاً مكوناً من 12 رجلاً ممن تتوفر لديهم الخبرة بتكنولوجيا الملاحة والرياضيات ورسم الخرائط، ودربهم على التقنيات الجديدة وتدقيق الحسابات، وجمع الإدريسي بياناته من عدة مصادر وهي:

  • معلوماته التي جمعها خلال أسفاره، ثم قابل بحارة من مختلف المناطق، وزار بنفسه المناطق التي احتاج إلى معلومات أكثر دقة عنها.
  • إرث الفكر العربي واليوناني:
    • اتبع الإدريسي طريقة العالم اليوناني بطليموس، حيث بحث في مخطط المناطق المناخية السبع، والذي يضم دولها ومناطقها وسواحلها وشواطئها وخلجانها وبحارها وموانئها وأنهارها، ومصبات الأنهار والمناطق المأهولة وغير المأهولة، والطرق الداخلية للتنقل لكل دولة وما بين الدول، مع تحديد المسافة وتسجيلها.
    • استعرض كتابات الرحالة والتجار والمستكشفين مثل المسعودي وأبونصر سعيد الجهاني وأبو العلي وقاسم محمد عبدالله بن خردذبه وأحمد بن يعقوب.
  • لم يكتفِ الملك والإدريسي بمشاهدات هؤلاء البحارة والمستكشفين، إذ أرسل الملك بدوره سفينة من البحارة والصيادين المتمرسين لاستكشاف المناطق غير المكتشفة بعد حول العالم. وصلت السفينة إلى الشرق الأوسط وأوراسيا وإفريقيا، وإلى “أرض شتوية حيث يتساقط الثلج من السماء، ولا تشرق الشمس أبداً”. ووصف البحارة ما رأوه بدقة في رسوماتهم.

مع تزايد البيانات التي وردت للإدريسي، بدأت تفاصيل “الخريطة الإدريسية” بالتبلور.

اقرأ أيضاً: إليك القصة الكاملة وراء الجدول الدوري لمندلييف وسبب عدم فوزه بنوبل

مساهمات الإدريسي: الإرث الجغرافي

أكمل الإدريسي الكتاب في يناير/ كانون الثاني 1154، قبل وقت قصير من وفاة روجر، وبعد نحو 15 عاماً من قدومه إلى صقلية، استطاع الإدريسي خلال تلك المدة أن ينجز 3 أعمال جغرافية هي الأولى من نوعها:

  • مجسم للأرض على شكل كرة سماوية فضية، ثم نحته وحفره في خريطة ثلاثية الأبعاد للعالم، على شكل قرص مصبوب على قاعدة فضية.
  • خريطة للعالم، حيث يكون الجنوب في الأعلى، أظهر الإدريسي فيها أن التقسيم اليوناني للعالم إلى خمس مناطق مناخية (منطقتان باردتان، واثنتان معتدلتان وواحدة حارقة) لا يتوافق مع الواقع، واقترح نظاماً مناخياً عالمياً أكثر تعقيداً. بناء عليه، تكونت الخريطة من 70 قسماً تم تشكيلها عن طريق تقسيم الأرض شمال خط الاستواء إلى 7 مناطق مناخية متساوية العرض، ثم تقسيم كل منها إلى 10 أجزاء متساوية بخطوط الطول.
  • كتاب “نزهة المشتاق في اختراق الآفاق” وهو نص في الجغرافيا الوصفية، كان الغرض منه أن يكون مفتاحاً للكرة الأرضية.

في مؤلفاته وخرائطه، سرد الإدريسي وصفاً دقيقاً لشبه الجزيرة الاسكندنافية، والنيجر والسودان، وحدد مسار نهر النيل بدقة لم يسبقه إليها أحد، كما صحح بعض المفاهيم المغلوطة، مثل:

  • بحر قزوين كخليج لمحيط مفتوح.
  • المحيط الهندي المغلق.
  •  دورات الأنهار كالنيجر والدانوب.
  • التقسيم اليوناني للعالم مناخياً.
  • مواقع سلاسل الجبال الرئيسية.

بالإضافة إلى الجغرافيا، عُرف عن الإدريسي اهتماماته بعلم النبات، حيث ألّف كتاب “الجامع لصفات أشتات النبات” والذي وضّح فيه أساسيات مختلف أنواع النباتات والأشجار والفواكه والأزهار. 

اقرأ أيضاً: ماري كوري: ما الذي قدمته أولى الفائزات بجائزة نوبل للإنسانية؟

وفي الطب ألّف كتاب “الأدوية المفردة”، والذي رتب فيه الأدوية ترتيباً هجائياً في نحو 12 لغة، منها السريانية واليونانية والفارسية واللاتينية والبربرية، ما يوضّح مهاراته اللغوية أيضاً.

يقال إن الإدريسي عاد في آخر سنوات حياته إلى بلاده، حيث توفي فيها عام 1165، بينما يعتقد قسم آخر أنه بقي في صقلية.

خلال الصراعات السياسية التي تلت وفاة روجر الثاني، اختفى المجسم الكروي الفضي الذي أنشأه الإدريسي، إلا أن خريطته وعدداً من كتبه استطاعت النجاة.

كرسام خرائط وجغرافي، استطاع الإدريسي أن يؤثّر على أوروبا لقرون عديدة، والتي منحته لقب “أبو الجغرافيا”. طُبع كتابه في روما عام 1591، وتُرجم إلى اللغتين اللاتينية والإيطالية، وكان مرجعاً للدراسات والاكتشافات الجغرافية اللاحقة، إذ أسس علماً مستقلاً يدرس اليوم في المدارس والجامعات. 

ولتكريم الجغرافي العظيم، منحت وكالة ناسا الخط الساحلي الجبلي في منطقة سبوتنيك بلانوم على كوكب بلوتو اسم “جبال الإدريسي”.