عندما ظهر فيروس كورونا لأول مرة في أواخر عام 2019، كانت الظروف مثالية لانتشاره، وكان بإمكانه إصابتنا من خلال كل ما حولنا تقريباً. بالرغم من أن الفيروس كان منتشراً بين الحيوانات على الأرجح لبعض الوقت، لكنه جديد على البشر تماماً. فلم يكن لدى أي أحد منا مناعة ضده، بالإضافة إلى خصائص الفيروس الأخرى مثل إمكانية انتقاله من شخصٍ لآخر لا يدركون أنهم يحملونه، فقد سمح ذلك كله للفيروس بالانتشار حول العالم.
لكن الجوائح لا تدوم للأبد، حتى لو كنّا نشعر عكس ذلك الآن. في مرحلة ما، غالباً لن يتبقى للفيروس في نهاية المطاف أهداف سهلة يمكن أن يصيبها. يقول «شين كروتي»، أخصائي المناعة في معهد «لاجولا» لعلوم المناعة في كاليفورنيا: «عندما يصبح هناك عدد كافٍ من الناس المحصنين ضد الأمراض المعدية، فإن كل السكان -سواء كنا نتحدث عن قرية أو مدينة أو دولة- يمتلكون بعض الحماية منها». وهذا المفهوم هو ما يسميه علماء الأوبئة وخبراء الصحة العامة الآخرون «مناعة القطيع». تلعب هذه المناعة دوراً رئيسياً في آلية عمل اللقاحات بكفاءة، ولماذا لا تكون للأنفلونزا مثلاً تأثير مدمر على السكان.
ولكن متى سنصل إلى هذه النقطة بالنسبة لفيروس كورونا؟ وما مقدار الحماية التي يمكن أن توفرها «مناعة القطيع» لنا؟
يقول كروتي: «مناعة القطيع ليست رقماً سحرياً بمجرد وصولنا إليه لن يصاب أي شخص آخر بالمرض. فالجائحة لن تختفي تماماً بعد أن نصل إلى مناعة القطيع، وسيستمر الفيروس بالانتشار وإصابة الناس وسيقتلهم، ولكّن حدوث ذلك سيكون أقل شيوعاً».
يمكن أن تتطور مناعة القطيع بشكلٍ طبيعي بعد إصابة عدد كبير من الناس بالمرض. يقول «دورلاند فيش»، عالم الأوبئة في كلية ييل للصحة العامة: «مع ازدياد عدد الأشخاص الذين يحصلون على المناعة، فإنهم لن يصابوا بالمرض مرة أخرى، وبالتالي فإن معدل الإصابة سينخفض ببطء. إن عتبة مناعة القطيع هي النقطة التي ينقل فيها كل شخصٍ مصاب المرض إلى أقلّ من شخصٍ واحد في المتوسط».
أما الطريقة الأخرى التي يمكن من خلالها أن تنشأ مناعة القطيع؛ فهي عن طريق إيجاد لقاح واستخدامه على نطاقٍ واسع. بمجرّد أن يصبح اللقاح متاحاً، لن يكون فعّالاً على جميع الناس، ولكّن عندما يتم تطعيم أعداد كافية من البشر للوصول إلى مناعة القطيع، فإنّ فرص انتشار العدوى تكون أقل بكثير».
يقول كروتي: «أحد الحالات المدهشة التي حصل فيها ذلك؛ كان استخدام لقاح شلل الأطفال. في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، تسببت فاشية شلل الأطفال في حدوث أكثر من 15000 إصابة سنوياً في الولايات المتحدة، وذلك وفقاً لمركز السيطرة على الأمراض. ثم في عام 1955 أصبح اللقاح مُتاحاً. في العام التالي، شهد العلماء حالات شلل أطفال أقلّ بكثير مما كانوا يتوقعون. فلم يصاب الأطفال الذين تلقوا اللقاح مرة أخرى، وكان انتشار المرض أقل حتّى بين الأطفال الأكثر عرضةً للمرض، والأطفال الذين لم يتلقوا اللقاح أيضاً. انخفض عدد حالات شلل الأطفال الجديدة إلى أقل من 100 حالة خلال الستينيات، وإلى أقل من 10 حالات في السبعينيات، ثم اختفى نهائياً عام 1979. ومنذ ذلك الحين، أعلن القضاء على شلل الأطفال في الولايات المتحدة، مع وجود بعض الاستثناءات من خلال الحالات التي ينقلها المسافرون المصابون من مكانٍ آخر».
عادة ما يحتاج أكثر من 70% من السكان إلى التطعيم للحصول على مناعة القطيع، لكن هذه النسبة ترتفع خصوصاً عندما يكون المرض معدياً. ففي حالة شلل الأطفال، كان يجب تلقيح 80 - 85% من السكّان. أما بالنسبة للحصبة، وهو مرض معد جداً، يجب تطعيم 19 شخصاً من أصل 20 شخصاً لإبقائه تحت السيطرة. في السنوات الأخيرة، أصبحت فاشيات الحصبة أكثر شيوعاً في الولايات المتحدة، خاصة في المجتمعات التي لا يتم فيها تلقيح عدد كافٍ من الأشخاص.
يقول كروتي: «مرض الحصبة معد جداً لدرجة أنه يمكن أن يصيب الأشخاص الذين لم يتلّقوا اللقاح، أو الذين ليس لديهم مناعة قوية، لذلك عليك بالفعل أن تغطّي نسبة كبيرة من السكّان بلقاح الحصبة لحماية السكان».
أما بالنسبة لفيروس كورونا؛ فليس من المؤكد بعد ما هي النسبة المئوية من السكان التي تحتاج أن تكون محصّنة ضد الفيروس قبل أن تبدأ مناعة القطيع بلعب دورها في إبطاء انتشاره، إلا أن بعض التقديرات الحالية تشير إلى الحاجة لتطعيم 50 إلى 70% من السكان.
تعتمد سرعة وصولنا إلى مناعة القطيع على عدد من العوامل. في الوقت الحالي، يعد التباعد الاجتماعي مهماً لمنع فيروس كورونا من الانتشار على نطاق واسع. لكن للتباعد الاجتماعي جوانب سلبية، لأنها تعني أيضاً أن الغالبية العظمى من السكان سيكونون عرضة للإصابة بالفيروس، وبالتالي سيستغرق الوصول إلى مناعة القطيع وقتاً أطول بكثير.
يقول كروتي: «لو كنا نتحدث عن فيروس يتسبب ببعض السعال وارتفاع الحرارة فقط، ولم يتسبب في حدوث وفيّات؛ فإن أسرع طريقة للوصول إلى مناعة القطيع هي تركه يتفّشى بين الناس ببساطة. ولكن بالنظر إلى مدى خطورة المرض الذي نتعامل معه، فمن المنطقي العمل على إبطاء انتشاره، وبناء مناعة القطيع بشكلٍ تدريجي إلى حين تطوير لقاح خاص به».
أفاد باحثون في جامعة هارفارد الأسبوع الماضي في دراسةٍ جديدة نُشرت في دورية «ساينس» بأن الولايات المتحدة قد تضطر إلى إعادة فرض إجراءات التباعد الاجتماعي عدة مرات لتجنب حدوث طفرات مستقبلية في عدوى فيروس كورونا، والتي تتسبب بإرهاق المستشفيات وجعلها غير قادرة على توفير الرعاية الصحيّة لكل المرضى. وفي ظل غياب أي تقدم في قدرتنا على محاربة فيروس كورونا، قد نُضطر للاستمرار في فرض إجراءات التباعد الاجتماعي حتى عام 2022.
لكننا قد نصبح قادرين على إدارة انتشار الفيروس بشكلٍ أكثر كفاءة قبل ذلك الوقت. قد نخفّف من إجراءات التباعد الاجتماعي الصارمة إذا تمكّن العلماء من تطوير علاج مضاد للفيروس يمنع تطوّر الأعراض التي تصبح مميتة.
يقول «مارك ليبسيتش»، عالم الأوبئة وأحد مؤلفي الدراسة الجديدة في مؤتمر صحفي: «سيكون ذلك مساهمة كبيرة ليس فقط في الحفاظ على الأرواح، بل وفي الوصول إلى مناعة القطيع في إطار أحد هذه السيناريوهات».
ويقول كروتي إن مدى فائدة مناعة القطيع تعتمد أيضاً على كيفية استجابة أجهزة المناعة للفيروس. وذلك يعني أن على العلماء الإجابة على بعض الأسئلة الجوهرية مثل؛ هل يطور المصابون مناعة ضد الفيروس بعد التعافي منه فعلاً؟ هل هذه الاستجابة قوية بما يكفي لحمايتهم من الإصابة بالعدوى مرة أخرى؟ وكم تدوم المناعة ضد الفيروس؟ وهل اكتسب السكّان أي مناعة مُسبقاً بسبب التعرّض للفيروسات التاجية الأخرى -الأقل خطورة- التي تسبب نزلات البرد؟
من المحتمل أن يكون لدى العلماء فكرة أولية عن مدى قوة الاستجابة المناعية ضد فيروس كورونا بحلول هذا الصيف؛ وفقاً لكروتي، حيث يقول: «نحاول مع الآخرين استخلاص بيانات حول الجهاز المناعي، حيث تساعدنا على إدراك ما يمكن توقعه بخصوص إمكانية الوصول إلى مناعة القطيع. قد تساعد هذه البيانات أيضاً الباحثين على تطوير لقاح فعال».
ويضيف: «الطريقة الكلاسيكية لتطوير اللقاح هي النظر إلى استجابة الجهاز المناعي ضد الفيروس، ومحاولة إحداثها عبر استخدام اللقاح». يقول كروتي: «على سبيل المثال، عندما كان الباحثون يعملون على تطوير لقاح التهاب الكبد «بي»، وجدوا أن معظم الأشخاص الذين تلقوا اللقاح الأوّلي تعافوا تماماً من الفيروس باستثناء القليل (حوالي 5% من المصابين)؛ الذين تطوّرت لديهم أمراض الكبد المزمنة تدريجياً. لاحظ العلماء عندها أن الأشخاص المتعافين قد طوروا أجساماً مضادّة فريدة، فاستخدمها الباحثون لتطوير لقاح فعّال جداً ضد المرض».
كما يعتمد توقعنا لمدى قربنا من الوصول إلى مناعة القطيع أيضاً على توفّر اختباراتٍ مصلية على نطاقٍ واسع، والتي تكشف عن الأجسام المضادة التي تحارب الفيروس في دم المتعافين. ستساعد هذه الاختبارات في الكشف عن عدد الأشخاص المصابين بالفعل، ومدى شيوع الإصابة بفيروس كورونا دون إدراك المصابين ذلك.
على الرغم من الدمار الذي سببه فيروس كورونا حول العالم، فإننا ما يزال أمامنا طريق طويل لنقطعه قبل الوصول إلى مناعة القطيع. في 20 أبريل/ نيسان، أفادت منظمة الصحة العالمية أن البيانات الأولية للاختبارات المصلية تقترح أن 2 - 3% فقط من سكان العالم فقط لديهم أجسام مضادة، تشير إلى أنهم أُصيبوا في السابق بالفيروس.
ولكن حتّى عندما يكون هناك دليل على أننا وصلنا إلى مرحلة مناعة القطيع، علينا أن نكون حذرين جداً. يقول كروتي: «بمجرّد أن نصل إلى مناعة القطيع، ستتلاشى هذه الجائحة وآثارها الكارثية، لكّن الفيروس سيبقى ويمكن أن يصيب الناس. عملياً، سيكون هناك عدد أقلّ من الإصابات والوفيات من ذي قبل، إذ أن مجرّد الوصول إلى مناعة القطيع لا يعني بالضرورة أن اكتسبنا المناعة ضده وانتهى الأمر».
يقول فيتش: «عندما تبدأ مناعة القطيع بالظهور، فمن المحتمل أن تظهر في بعض الأماكن قبل الأخرى، ومن المحتمل أن يكون هناك مناطق لم يحدث فيها انتشار كبير للمرض، وما يزال فيها الكثير من الناس عرضة للإصابة بالفيروس مقارنة بالمناطق التي حدثت فيها حالاتٌ كثيرة».
من المحتمل أيضاً أن يعود فيروس كورونا مجدداً من حينٍ لآخر، وينتقل من مجتمعات أخرى ينتشر فيها على نطاقٍ أوسع. وذلك يحدث بانتظام بالنسبة لمرض الحصبة في الولايات المتحدة، ويبدو أن ذلك يحدث الآن بالنسبة فيروس كورونا في العديد من الدول التي نجحت في السيطرة على الموجة الأولى من المرض.
يقول كروتي: «ما زلنا بحاجة إلى لقاح حتى لو وصلنا إلى مناعة القطيع كي نتمكن من حماية الجميع».