تخيّل أن يتمكن الناس في بعض المناطق الصحراوية القاحلة، وسط الكثبان الرملية مترامية الأطراف، ودرجات الحرارة المرتفعة، مع أدنى مستويات من المياه العذبة في العالم من زراعة خضرواتهم الورقية ونباتاتهم المغذّية على مدار العام. إنّ هذا الحل المبتكر الهادف لإنتاج المزيد من الغذاء باستخدام موارد أقل، عبر زراعة النباتات دون تربة ودون هدر للمياه هو الزراعة المائية. وإليكم أهمية الزراعة المائية في توفير الغذاء.
ما هي الزراعة المائية؟
الزراعة المائية (Hydroponics) والتي اشتقِت من الكلمة اليونانية "Hydro" وتعني مياه و"Ponos" وتعني العمل، فأصبحت تعني العمل أو الزراعة في الماء، أي استبدال الماء بالتربة وإضافة المحاليل المغذية إلى المياه التي تمد النبات باحتياجاته الغذائية.
اقرأ أيضاً: ما الفرق بين الزراعة المائية والزراعة التقليدية؟
بدأ الأمر في القرن التاسع عشر، عندما توصّل يوليوس ساكس (Julius Sachs)، عالم النبات الألماني، إلى أن النباتات لا تحتاج إلى التربة للنمو وإنما تحتاج إلى العناصر الغذائية الموجودة في التربة، ثم نُشرت عام 1860 صيغة "المحلول المغذّي" لزراعة النباتات في الماء، التي شكّلت الأساس لتقنية الزراعة المائية الحديثة.
وفي عام 1937، وصف ويليام جريك (William Gericke)، عالم النبات الأميركي، كيفية استخدام الزراعة المائية في إنتاج كميات كبيرة من المحاصيل، وقد بيّن أن ديناميكيا السوائل للماء قد غيّرت من بنية جذور النباتات، ما سمح لها بامتصاص العناصر المغذية بكفاءة أكبر مقارنة بالنباتات المزروعة في التربة، ما تسبب بالتالي في نموها بشكل أكبر خلال مدة زمنية أقصر.
ومنذ ذلك الحين والعلماء يعملون على تحسين محلول المغذيات، حتى أصبحت أنظمة الزراعة المائية متطورة جداً، فثمة أنظمة ترصد مستويات المغذيات ودرجة حرارة الماء ودرجة الحموضة وكمية الضوء التي يتلقاها النبات.
واليوم، تعتمد التكنولوجيا المُستخدَمة في أنظمة الزراعة المائية في البلدان النامية إلى حدٍّ كبير على الأنظمة التي طوّرتها وكالة ناسا، التي استطاعت عبر استخدام تقنية الزراعة المائية زراعة وإنبات النباتات في الفضاء، وهو المناخ الأكثر تطرفاً الذي عرفه البشر، وقد تناول روّاد الفضاء من خضرواتهم الورقية المزروعة في الخارج.
أهمية الزراعة المائية في إنتاج الغذاء
على الرغم من أن الزراعة المائية تحتاج إلى تكاليف أولية وتشغيلية مرتفعة، وتحتاج إلى معرفة ومهارة للعمل بشكل صحيح، فإنها ومع ذلك تحقق العديد من الفوائد، ومنها:
استغلال أفضل للمساحة
تتطلب الزراعة المائية مساحة أقل بكثير مقارنة بالزراعة التقليدية في التربة، خصوصاً عندما يتم الجمع ما بين الزراعة المائية وتقنيات الزراعة العمودية. وأحد أهم الأسباب التي تساهم في توفير المساحة في هذه التقنية هي أن جذور النباتات لا تضطر للانتشار بحثاً عن العناصر الغذائية والماء، بل يتم تزويدها إلى النبات مباشرة إما بشكل متقطّع وإما مستمر، وذلك حسب تقنية الزراعة المائية المُستخدَمة.
توفير المياه
لا يعني كونها زراعة مائية أنها تستخدم كميات كبيرة من المياه، على العكس، فهي تتيح إعادة تدوير المياه وتقلل من استهلاك المياه بنسبة 90% مقارنة بالزراعة التقليدية. وبالطبع، فهذا أمرٌ في غاية الأهمية خصوصاً مع المناطق التي تزداد فيها ندرة المياه العذبة عاماً بعد عام. على سبيل المثال ووفقاً لمنظمة الأغذية والزراعة، فإن منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا عانت من انخفاض كمية المياه العذبة المتاحة بنسبة 60% في السنوات الأربعين الماضية، ومن المتوقَّع أن تنخفض بنسبة 50% مرة أخرى بحلول عام 2050. بالتالي، فإن التقنيات المبتكرة في الزراعة المائية من شأنها أن تقلل من استهلاك المياه، وتحقق الاستفادة الفعّالة والذكية من الموارد الطبيعية.
عدم الحاجة إلى التربة
يفقد العالم تربته الصالحة للزراعة بسرعة بسبب التعرية وبناء المدن والملوحة والتصحر وفقدان العناصر الغذائية وغيرها، وبالتزامن مع هذا، فإنّ عدد سكان العالم يزداد بشكل سريع جداً. وحسب الأمم المتحدة، فإنه من المتوقَّع أن يقارب عدد سكان العالم 10 مليارات شخص بحلول عام 2050. إذاً، لا بُدّ من استخدام طريقة حديثة في الزراعة لا تعتمد على التربة بغية إطعام هذه الأعداد المتزايدة من البشر.
بالإضافة إلى ذلك، هناك تباين كبير في جودة التربة من موقع لآخر، كما أنّ العديد من النباتات تمتلك تفضيلات معينة لنوع التربة التي تنمو فيها، بالتالي فإنّ المزارعين التقليديين يمكنهم زراعة المحاصيل التي تناسب تربة أراضيهم فقط. وعلى مستوى العالم، يمكن زراعة عدد قليل من المحاصيل باستخدام الطريقة التقليدية. لكن ومع الزراعة المائية، فإن التربة لن تكون مصدر قلق، ما سيساعد المزارعين على زراعة المحاصيل المناسبة للمجتمع دون الخوف من تدهور التربة.
التحكم في ظروف النمو المناسبة
يمكن احتواء الزراعة المائية ضمن بيوت بلاستيكية مائية أو أيّ هيكل آخر، وهذا يعني أنه يمكن التحكم إلى حد ما بالمناخ الدقيق المناسب للنباتات، وذلك بمعزل عن العديد من الصعوبات التقليدية التي يواجهها المزارعون عادةً، كالجفاف والأمطار غير المنتظمة والأعشاب الضارة وغيرها. وفي المرافق التي يتم التحكم بدرجة حرارتها مع وجود أضواء صناعية للنمو، فإنه من الممكن زراعة النباتات على مدار العام بغض النظر عن الطقس أو المناخ في الخارج.
إنتاجية أعلى
مع الزراعة المائية، تكون العناصر الغذائية متاحة بسهولة للنباتات، ومع إمكانية التحكم في الضوء والحرارة والمغذيات والترطيب والآفات وجميع جوانب عملية النمو، فإن النباتات تنمو بشكل أسرع بمعدّل 30-50% مقارنة بالنباتات المزروعة في التربة، وتحقق بالتالي نمواً أفضل وإنتاجية أعلى مع استخدام أقل للموارد.
ختاماً، على الرغم من وجود بعض التحديات والتكاليف التي تواجه الزراعة المائية، فهي قد تؤثّر بشكل كبير في حلّ مشكلات الجوع وتغيّر المناخ في المستقبل.
اقرأ أيضا: