على الأرجح هناك شيءٌ ما يقبع في زاوية ما في حياتك يُلح عليك أن تنجزه. يزداد إحساسك بالذنب بسبب ضياع الوقت؛ لكن لا رغبة لديك في إنجاز هذه المهمة الآن. إن قررت الاستغراق في شعورك بالملل وفي حلم يقظةٍ ملئ بالألوان، ربما أنت على صوابٍ في قرارك هذا. وربما تتبنى رؤية الفيلسوف بيرتراند راسل في الترحيب بشعور الملل، وأهميته لعيش حياةٍ سعيدة.
الملل: محفز للإبداع
ينتج الملل عن إدراك الفجوة بين التحفيز وتوافره؛ أنت ترغب شيئاً غير موجود، والملل هو مُنبهك لهذا الغياب، تشعر بالملل خلال تأدية المهام الرتيبة والروتينية بسبب بحثكَ عن التنوع، عن شيءٍ جديد. وعند تأدية مهمةٍ إلزامية، تضجر لأنك تريد فعل ما هو غير مطلوب. وتظن أن تلبية رغباتك هو ما سيسد الفجوة، وأنه سيُلطف شعورك بالملل، لكن هذا ليس صحيحاً.
تدعم التجارب النفسية أهمية وجود فسحةٍ من الزمن لا يفعل فيها الإنسان شيئاً ذا معنى، أو شيئاً يُضجره، لأن النتيجة ستكون خلّاقة. أجرت باحثتان؛ ساندي مانّ، وريبيكا كادمان من جامعة سنترال لانكشاير الإنجليزية،تجربةٌ تشرح كيف يؤثر الملل على تحفيز الإبداع. طُلبَ من مجموعة من المشاركين في التجربة آداء مهمة مملة للغاية، وهي نسخُ أرقامٍ هاتفية بخط أيديهم، ومجموعة أخرى لم تؤد أي نشاط سُميت بمجموعة التحكم. ثم طُلب من كلا المجموعتين أفكاراً مختلفة لاستخدام كوب بلاستيكي. اتضح أن المجموعة التي نسخت الأرقام هي من نجحت في إنتاج أفكار مختلفة وإبداعية أكثر من المجموعة الثانية.
توضح نتيجة هذه التجربة أن الشعور الناتج عن الملل يزيد من تأثير أحلام اليقظة على الإبداع. يصل الحوار الدائر في حلم اليقظة إلى معلوماتٍ خامدة أو بعيدة المنال في الدماغ، وترتبط المعلوماتٍ بطريقةٍ لم يسبق لها مثيل. تحدث عمليةٌ مماثلة أثناء الحلم خلال النوم، لكن أكثر عشوائية. لذا فعندما يملّ الإنسان، يفكر في شيءٍ يحفزه ويثير انتباهه في عقله الباطن، ما يؤدي إلى العثور على ارتباطات جديدة ومختلفة. فكر في الآلية الروتينية التي تتخذها يديك حينما تغسل الأواني أو تطوي الملابس؛ مهمةٌ تفعلها دون انتباهٍ فكريّ، فتشعر بالملل، لكن عقلك حينها يكون في ذروة نشاطه.
اتركه دون تشتيت
تقول الباحثة ساندي مانّ؛ إن الاستفادة من الشعور بالملل، تبدأ بالاستعانة بأنشطةٍ تتطلب القليل من التركيز، مثل المشي في طريق مألوف أو مجرد الجلوس دون فعل أي شيء، وترك العقل يُفكر دون موسيقى في الخلفية، أو أي محفزٍ آخر قد يوجه عقلك للتفكير بطريقةٍ معينة، ويمكن عبر هذه الطريقة الاهتداء إلى حلول وأفكار جديدة ومبتكرة.
نرى في الأغلب أن فعل أكثر من شيءٍ واحد في الوقت نفسه سيجعلنا أكثر إنتاجية ولن نضجر، لكن عقلنا لا يعمل بهذه الطريقة. تتطلب المهمات -مهما كانت روتينية- انتباهاً، وفي كل مرة يتحول الانتباه من شيءٍ لآخر، تحدث عملية كيميائية عصبية تستعين بمواد مغذية في الدماغ. لذا عندما تؤدي أكثر من مهمة في الوقت نفسه، فأنت تتنقل بسرعة من أمرٍ لآخر وتستنفذ الموارد العصبية. مخزوننا من هذه المواد محدود، فيؤدي دمج المهام إلى الأرهاق والضغط بشكلٍ أسرع.
الملل والكتابة الأدبية
رواية الهوبيت التي بُنيت عليها سلسلة أفلام «لورد اوف ذا رينج» كُتبت عندما كان مؤلفها «ج. ر. ر. تولكين» أستاذاً في جامعة أوكسفورد، وكانت أمامه كومةٌ من الامتحانات تنتظره ليُصححها؛ أمرٌ شاق ومجهد وممل. يحكي تولكين في مُقابلة أجراها على «بي بي سي» أنه تناول ورقة امتحان ووجد أن الطالب تركها فارغةً تماماً. غمرته الفرحة لأنه لن يضطر ليقرأ إجابة أخرى أكثر مملاً من سابقتها، فاندفع لكتب فيها «يُحكى أنه في حفرةٍ بالأرض كان يسكن أحد الهوبيت»، وشكلت هذه الافتتاحية أحد أعظم بدايات حكايات الفانتازيا.
أجاب نيل جايمان، كاتب الفانتازيا الشهير، حين سُأل من أي مصدرٍ يستلهم أفكاره: «إننا نحظى بالأفكار بالاستغراق في أحلام اليقظة؛ من الملل. تُداهمكَ الأفكار طوال الوقت. والفرق بين الكتّاب والأناس الآخرين هو أننا نعير الانتباه عندما نفعل ذلك». قد يُشعرك الملل بالانزعاج والغضب وعدم الارتياح، لكن ربما يؤتي ثماره حينما تضجر كما يجب، دون أن تحاول طرده.