أثّرت جائحة فيروس كورونا الحالية على حياتنا اليومية بطرقٍ مختلفة. بالنسبة لي ككاتبة علوم، فقد بات من الصعب عليّ التحدّث مع الأطبّاء والعلماء، لسؤالهم عن آرائهم في القضايا العلمية الراهنة مثلما كان عليه الحال في الأوقات العادية، لأنهم منشغلون للغاية في معالجة المرضى، والعمل على الأبحاث العلمية لإنقاذ أرواح الناس. وفي الوقت نفسه، تنشر المجلات العلمية والطبية المقالات بشكل أسرع مما يمكننا متابعته، بالإضافة لعدم مراجعة الأقران لها بالضرورة بسبب التأخّر في تقييمها في ظل الوضع الحالي.
في النصف الأول من شهر مارس/ آذار الماضي، كتبت العديد من المقالات الإخبارية العاجلة، واضطررت بعد ذلك إما لحذفها أو تعديلها عدّة مرّات. في الواقع، لم تكن هناك فرص متاحة لإجراء مقابلات مع العلماء من أجل سؤالهم حول القضايا المُستجدة مع استمرار ضغط دورة النشر، وأحياناً قد أضطر لتعديل الأخطاء في المقالات مرتين مع ظهور معلومات جديدة كلّ دقيقة.
ثم بدأت الندوات الحوارية عبر الإنترنت. بعضها تجريها وسائل الإعلام، والبعض الآخر يجريها الأطباء. وقد حضرت أكبر عددٍ منها، سواء التي كانت تعقدها الوكالات الحكومية أو مجموعات الدّفاع عن المرضى والمجلّات العلمية. بالنسبة لي، هذه المقالة السادسة عشر التي أكتبها حول قضية فيروس كورونا، ويرجع السبب في ذلك إلى التحديثات المستمرّة التي يطرحها الخبراء حول الفيروس يومياً تقريباً. كانت الندوات الحوارية التي أفضلها، هي تلك الندوات المباشرة عبر الإنترنت، حيث كان يدير الحوار فيها «هوارد باوتشنر»، الطبيب ورئيس تحرير دورية «مجلة الجمعية الطبية الأميركية».
بشكلٍ خاص، أحببت الحلقة الحوارية التي تم بثّها في 2 أبريل/ نيسان، وأجراها هوارد مع «فرانك سنودن»، الحاصل على الدكتوراه والأستاذ الفخري في تاريخ الطبّ في جامعة ييل، ومؤلّف كتاب «الأوبئة والمجتمع: من الموت الأسود حتى الوقت الحاضر»، والذي نُشر -وللمفارقة- في الخريف الماضي. في الواقع، لقد ذكرني الاستماع للحوار معه بكتبي المفضّلة عن الأوبئة والجوائح، والتي سأذكرها في النهاية.
يستضيف الدكتور هوارد في برنامجه الحواري بانتظام د. «أنوني فاوتشي» (الاختصاصي الأميركي في علم المناعة، ومدير المعهد الوطني للحساسية والأمراض المعدية، وعضو فريق عمل البيت الأبيض لفيروس كورونا المعني بجائحة كورونا)، وكان آخرها في 8 أبريل/نيسان. لذلك سأستعين بما قاله الطبيبان، سنودن وفاوتشي، ليخبرانا حول واقع مرض كوفيد-19 الذي يسببه فيروس كورونا، وما هو المتوقّع في المستقبل، وكيف يمكن أن تتشابه هذه الجائحة مع الجوائح التي يحفل بها تاريخنا.
تقاربٌ استثنائي للأحداث
يعزو الدكتور سنودن الوباء الحالي إلى «التقارب الاستثنائي للأحداث».
يقول سنودن: «أولاً، لقد صُدمت بسهولة وسرعة انتشار الوباء في جميع أنحاء العالم، ويرجع ذلك جزئياً إلى ظروفٍ عديدة، تحديداً طبيعة العالم الذي بنيناه. ثانياً، لقد صُدمت أيضاً بمستوى الاستعدادات المتدنّية لمواجهة مثل هذه الأوبئة في حال حدوثها. لا يمكنني تفهّم عدم استعداد العالم لذلك تماماً. منذ جائحة أنفلونزا الطيور عام 1997، كان هناك عددٌ متزايد من علماء الأوبئة والفيروسات يحذرون بأنّ الجوائح ستحدث في المستقبل بشكلٍ متكرر، ولا يمكن تجنبّها»، وقد توّسع سنودن في شرح هذه القضية في المقابلة وتابع قائلاً:
«في أعقاب جائحة سارس بين عامي 2005 و 2006، بدأ الكونجرس الأميركي ومنظمة الصحة العالمية والشركات الصحية بالعمل على التحضير للجوائح القادمة. لكنّهم توقفوا عن ذلك عندما انتهى الوباء. كما ذكر الدكتور فاوتشي أمام الكونجرس أنه إذا كان هناك شخص يعيش في منطقة الكاريبي، يمكنه توقّع أن يقول خبراء الأرصاد الجويّة أن إعصاراً سيضرب المنطقة لا محالة، ولكن لا يمكن لذلك الخبير توقّع متى سيحدث تماماً، وما مدى قوّته. وبالمثل، يتابع سنودن، يمكن أن يخبرك عالم فيروساتٍ أنّ وباءً آخر سيحدث في المستقبل، لكنّننا لم نكن نعرف مدى قوّته، أو متى سيحدث، ولكن الأمر كان حتمياً».
في الوقت الذي ضرب فيه فيروس إيبولا غرب إفريقيا عام 2014، لم يكن العالم مستعداً مرة أخرى. يقول الدكتور سنودن: «عيّنت منظمة الصحة العالمية لجنة للنظر في الاستعداد العالمي لمواجهة أيّ وباء عام 2018، وقد أصدرت تقريرها في عام 2019 بعنوان «العالم في خطر». وقد تنبّأ التقرير بأن الملايين من الناس سيموتون في الجائحة القادمة، ولكن بعض البلدان (دون ذكر أسمائها) خفّضت من من مستوى استعدادها، ومن ميزانياتها المخصّصة للصحّة العامّة بدلاً من التحضير الجدّي للجائحة القادمة.
ويضيف سنودن: «ثالثاً، عدم أخذ العلم على محمل الجد هو ما يزعجني أكثر بشأن ظهور الوباء». منوّهاً إلى أنّ التشكيك بالعلم مستمرٌ بين العديد من شعوب العالم حتى الآن. وتحدث عن أن بعض الناس يطلقون اسم «الفيروس الصيني» على فيروس كورونا، على الرغم من أن منظمة الصحة العالمية أطلقت عليه رسمياً اسم «سارس-كوف-2»، والذي يحمل دلالةً علمية. يقول: «تسمية الفيروس باسم الفيروس الصيني يحمل وصماً، كما أنه يوجّه رسالة إلى العلماء مفادها أن هناك بعض الأشخاص لا يأخذون مخاوف العلماء من انتشار الفيروس على محمل الجد».
مقارنة الوباء الحالي مع الأنفلونزا الإسبانية عام 1918
سأل مقدّم البرنامج سنودن؛ ما هو الوباء السابق الأكثر تشابهاً مع الوباء الحالي برأيك؟ أجاب د. سنودن على الفور بأنّه وباء الأنفلونزا الإسبانية الذي حدث عام 1918.
يقول د. سنودن عن تلك الجائحة: «لا يزال هناك جدلٌ حول أين وكيف نشأ الفيروس. هناك ثلاثة أماكن محتملة لنشوئه؛ الصين، كانساس، أو في القاعدة العسكرية البريطانية في «إتابليس» في شمال فرنسا. بدأ الفيروس بالانتشار سريعاً من مدينة إتابليس مع تحرّك القوات الاضطراري إلى الجبهة الغربية. وقد تسبب بوفاة بين 50 إلى 100 مليون شخص منذ شهر نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1918، وحتّى العام التالي، وذلك أكبر من عدد الوفيات التي سببتها الحرب العالمية الأولى».
من المفارقات المهمة التي ساهمت بانتشار الفيروس في تلك المرحلة، كان السلام الذي أعقب الحرب، حيث حمل الجنود المرض معهم وهم عائدون إلى الولايات المتحدة. كما تمّ الاحتفال بعودتهم بحفلات ترحيبٍ وعروضٍ عسكرية اكتظّت بالناس، مما أدّى لانتقال العدوى بشكلٍ كثيفٍ جداً، خصوصاً العرض العسكري الذي جرى في فيلادلفيا عقب عودة الجنود. تسبب ذلك العرض في إصابة ومرض مئات الآلاف من الناس بعده مباشرةً. يضيف سنودن: «اتخذت المدن الكبرى الأخرى تدابير تبدو مشابهة لما نقوم به اليوم، مثل ارتداء الأقنعة والتباعد الاجتماعي، وإلغاء المناسبات والفعاليات التي يتجمّع فيها الناس مثل؛ الطقوس الدينية».
هناك شيء آخر ملفت للنظر في جائحة الأنفلونزا الإسبانية، وهي نسيانها إلى حدٍ كبير بعد انتهائها. يقول سنودن: «كيف يمكن لمرضٍ تسبب في وفاة 100 مليون شخص ألا تُخلّد ذكراهم في مؤسساتنا واقتصادنا؟ في الواقع، يعود السبب جزئياً إلى أن أحداث الحرب ومن ثمّ اتفاقيات السلام قد أرخت بظلالها وغطّت عليه. بالإضافة إلى أن الجائحة لم تُضطّر المجتمعات للحجر مثلما حصل خلال جائحة الطاعون في أوروبا، أو ما يُعرف بـ «الموت الأسود» في القرن الرابع عشر، لكنّها خلّفت دماراً كبيراً، واختفت بعد بضعة أسابيع فقط». ويذكر سنودن في نفس السيّاق أن بريطانيا لديها العديد من المعالم التذكارية التي تخلّد ذكرى الحرب العالمية الأولى، وشجاعة الجنود، ولكن ليس لديها سوى مَعْلم تذكاري وحيد يخلّد ذكرى الأبطال الحقيقيين الذين حاربوا الأنفلونزا الإسبانية من الأطبّاء والممرضات، الذين خاطروا بأرواحهم أثناء رعاية المرضى، ورعاية زملائهم أيضاً.
انتشر فيروس الأنفلونزا على ثلاث موجات. يقول د.سنودن: «كانت الموجة الأولى في ربيع عام 1918، وكانت موجة حميدة إلى حدٍّ ما، ولم تكن سبباً رئيسياً للوفيات. ربمّا يكون الفيروس قد تحوّر بين الربيع والخريف وأصبح عندها مميتاً بشدّة، وقد تزامن ذلك مع نهاية الحرب. لقد كان منحنى الوفيات المتصاعد واضحاً».
والغريب أنّ جائحة الأنفلونزا عام 1918 لم تؤثّر على صغار السنّ أو على كبار السن، وكان شكل منحنى الإصابات خلاله على شكل حرف «W» وليس «U»، وكان ارتفاع الإصابات واضحاً لدى الشباب والبالغين. أي لدى من هم في أواسط العمر مثل الجنود. يبدو أنّ الجنود كانوا يموتون بسبب ردّ الفعل المناعي المفرط لديهم، مما كان يؤدي إلى امتلاء رئتهم بالسوائل بسرعة، أو ما يُسمّى اليوم بـ «عاصفة السيتوكين» الناجمة عن ردّ الفعل المناعي الذي يقوم به الجسم جرّاء إصابته بفيروس كورونا.
في عام 1918، كان الشباب ضعيفي المناعة بسبب تأثير الحرب القاسية عليهم، وكانوا يُحشرون في سفن النقل وفي المُعسكرات. ربما كان لدى كبار السنّ في ذلك الوقت مناعة ضد فيروس الأنفلونزا بسبب نجاتهم سابقاً من أوبئة الأنفلونزا المشابهة، وبالتالي اكتسبت أجسامهم مناعة قوية ضد فيروسات الأنفلونزا.
هل سيتبع فيروس كورونا مساراً مشابهاً لمسار أنفلونزا عام 1918؟ إذا كان الأمر كذلك، فسيفعل ذلك بشكلٍ مختلفٍ كثيراً عمّا كان عليه الحال منذ قرنٍ مضى، حيث كانت المدن والبلدات متباعدة عن بعضها، وليس كما هو حال مدن اليوم المكتّظة والمتقاربة.
يقول سنودن: «كان هناك انتشار للمرض ونسبة عالية من الوفيات غير عادية عام 1918، ومع ذلك لم يؤثر على العالم بالطريقة التي يبدو أنّ فيروس كورونا يؤثّر بها اليوم على عالمنا، وقد يكون تأثيره أكثر ديمومة (دائم). في الحقيقة لا نعرف بشأن ذلك حتّى الآن. ولكن من الواضح أن هناك تأثيراتٌ كبيرة ستدوم لفترةٍ طويلة على الاقتصاد، وعلى العلاقات بين الدول الصناعية والأسواق الناشئة، وعلى روابط التوريد الدولية، وعلى كل شيء تقريباً».
وباء الكوليرا
يقول د. سنودن: «لكل وباء أو جائحة خصوصية فريدة من نوعها. الأوبئة لا تشبه بعضها البعض، كما أنها تؤثّر على المجتمعات بطرقٍ مختلفة. من المثير للإهتمام أنّ بعضها قد ترك أثراً وبصمة كبيرة، بينما البعض الآخر لم يكن كذلك». ذكر سنودن قصّة وباء الكوليرا الكلاسيكية الذي انتشر عبر مضخّة مياهٍ في شارع «برود» عام 1854 في لندن، وقد حقّق الطبيب المحلّي «جون سنو» والقسّ «هنري وايتهيد» في حادثة تفشي وباء الكوليرا في شهر سبتمبر/ أيلول عام 1854 الذي خلّف آثاراً دائمة على الصحّة العامة.
وقد وجد سنو أنّ المريض رقم صفر كان طفلة تعيش في شارع برود، وقد تعرّضت إلى إسهالٍ شديد في 28 سبتمبر/ أيلول. قامت والدتها بالعناية بها، وللمفارقة، قامت بغسل حفّاضاتها على بعد أمتارٍ قليلة من مضخّة المياه، مما أدّى لتسرب براز الطفلة الذي يحمل جراثيم الكوليرا إلى إمدادات المياه في الحي. توفي 10% من سكان الشارع في غضون أسبوعين فقط، لأنّ الكوليرا تقتل في غضون أيام فقط.
ويتابع سنودن قائلاً: «أثّر تفشي الكوليرا بشكلٍ كبير على الإجراءات المُتخذة لتحسين الصحّة العامة؛ مثل توفير مياه الشرب النظيفة للسكّان، ووضع قوانين خاصّة بمواصفات المناطق السكنية، مما مهّد الطريق أمام ظهور فكرة «نظرية جرثومية المرض»، والتي تفترض أن الميكروبات هي سبب العديد من الأمراض. لقد كان سبب هذه الإنجازات مجرّد وباء محدود، كان أصغر بكثير من وباء الأنفلونزا الإسبانية عام 1918».
حوادث الموت الأسود والسّل
قد يحدث أن ينتشر التمييز العنصري بالتزامن مع انتشار الأوبئة. وربّما يكون خيرُ مثالٍ باقٍ على ذلك هو ما حدث أثناء انتشار الطاعون الذي تسببه بكتيريا «يرسينيا بيستيس».
يتحدّث الدكتور سنودن بهدوء عن الأهوال التي حدثت آنذاك قائلاً: «وقعت أحداث عنف استثنائية أثناء جائحة الموت الأسود. ففي عام 1349 وفي ستراسبورغ (الواقعة على حدود فرنسا وألمانيا)، تمّ جمع نحو 12 ألف يهودي ونُقلوا إلى مقبرةٍ يهودية، وخُيّروا بين اعتناق المسيحية أو القتل على الفور. رفض نصفهم الأمر وأُحرقوا أحياء. كان اليهود قد أُتهموا بتسميم آبار مياه الشرب ببكتريا الطاعون في ذلك الحين».
رواية «المخطوبون» التي ألفها «أليساندرو مانزوني» ونُشرت عام 1827 في ميلان بإيطاليا، تناولت أيضاً واقعة حدثت بسبب مرض الطاعون. فقد ضرب مرض الطاعون مدينة ميلانو حوالي العام 1630، وأُتهم عدد من الإسبان بأنّهم وراء نشر المرض، فقُبض عليهم وعُذبوا حتّى اعترفوا بأنّهم هم من قام بذلك رغم أنهم لم يفعلوا أي شيء. يقول د. سنودن: «لقد تكسّرت أجسادهم بسبب التعذيب، ثم أُحرقوا أحياء بتهمة نشر المرض عن طريق تسميم الآبار».
ويبدو أن مرض السل يُظهر أسوأ ما لدى الناس المذعورين. يقول د. سنودن: «عندما ظهر مرض السل وأدرك الناس أنه ليس مرضاً وراثياً، بل كان بسبب جرثومة تنتشر بسبب قلّة النظافة، أُتهمت الطبقة العاملة بأنّها المسؤولة عن انتشار المرض. وظهر التوتر والوصم آنذاك على أساس طبقي وعرقي في مدن مثل نيويورك، لأنّ المهاجرين كان يُعتبرون خطرين لاحتمال نقلهم المرض».
الإيدز مقابل فيروس كورونا
لم يظهر مرض الإيدز إلا منذ فترة قريبة من وقتنا الحالي. يشير د. سنودن إلى الوصم المروّع للمرض بأنّه مرض «فور إتش»، والذي ظهر في بدايات ظهور مرض الإيدز، في إشارةٍ إلى انتشاره بين المثليين والهايتيين، ومرضى الهيموفيليا ومدمني الهيروين.
كان الدكتور فوتشي في الخطوط الأمامية في مكافحة هذا المرض آنذاك. يقول: «بدأت قصّتي مع فيروس الإيدز بعد أسبوع من صدور التقرير الأسبوعي لمركز السيطرة على الأمراض حول عدد الإصابات والوفيات في يونيو/ حزيران عام 1981. لقد حوّلت مختبري بالكامل لدراسة مرضٍ ليس له اسم أو مُسببات معروفة. وفي الواقع، لم نكن نعرف ما علينا فعله حينها. كان يموت بين 30 إلى 35 ألف شخصٍ سنوياً في السنوات الأولى من اكتشاف مرض الإيدز، وكنا قد بدأنا نُدرك شيئاً فشيئاً أن المرض ينتشر بين فئة مجتمعية محدودة جداً».
يقارن د.فاوتشي بين طريقة انتشار فيروس الإيدز الخفيّة، والسرعة المذهلة التي ينتشر بها فيروس كورونا. يقول: «لم يتسبب فيروس الإيدز بإثارة المخاوف عند ظهوره لفترةٍ من الزمن. وفي الوقت الذي بدأنا فيه باكتشاف المرضى الحاملين للفيروس عبر اختبار الأجسام المضادة؛ لم يدرك الناس أنه مرضٌ يتحول إلى وباءٍ عالمي، وسيستمر لأربعة عقود بعدها، وسيقتل يومياً أكثر مما يقتله فيروس كورونا اليوم. بينما يمكن أن ينتشر فيروس كورونا لأسابيع فقط، لكّنه ينتشر بسرعة، والجميع معرضون للإصابة به في جميع أنحاء العالم، والكل خائف منه».
هل سنكون جاهزين في المرة القادمة؟
التقى جدّي بجدّتي في خضّم جائحة الأنفلونزا الإسبانية عام 1918، كانت ممرضةً تعتني به. ونادراً ما أصيب جدي بالأنفلونزا لبقية حياته، وقد تُوفي عن عمرٍ ناهز 103 أعوام. لا بد أنّ الأجسام المضادة والمقاومة للفيروسات كانت قوية لديه.
جيلنا لا يتذكر أنفلونزا عام 1918، والطاعون نادر الحدوث، وأصبحت الكوليرا والسل من الأمراض النادرة في جميع أنحاء العالم. إلا أن الأشخاص في نفس عمري يتذكرون أمراض الطفولة مثل؛ الحصبة، النّكاف، الجدري، الحصبة الألمانية والفصول الدراسية الفارغة والحفلات التي كان يقيمها والدانا للاحتفال بشفاء أطفالهم من الأمراض. كانت خطورة تلك الأمراض نادرة بفضل اللقاحات التي نأخذها في صغرنا.
لكننا جميعاً نتذكر حالات تفشّي الأنفلونزا في السنوات الأخيرة، واللقاحات التي يبدو أنها لم تنجح. يرجع السبب في ذلك جزئياً إلى أنّ أنماط الفيروسات الأخرى، مثل الفيروسات الأنفية، والفيروسات الغدّانية، والفيروس التنفسي المخلوي البشري، والفيروسات التاجية، جميعها تسبب التهابات الجهاز التنفسي. تعكس الأعراض المشتركة لهذه الفيروسات ردّ فعل أجهزتنا المناعية عليها، وليس الأسلحة التي تستخدمها مسببات هذه الأمراض مباشرة.
جميعنا سمع بفيروس الإيدز وسارس
إذاً، أي شخص كان يعتقد أن احتمال انتشار وباء ما هو أمر غير ممكن؛ ربّما لم يهتم بشكلٍ كافٍ لقرائن التاريخ والتنبؤات المستقبلية لعلماء اليوم والباحثين والأطباء وغيرهم.
هل سنترك الوباء يهزمنا؟ هل تحذير فيروس كورونا كافٍ لنا؟
يعتقد الدكتور فاوتشي أن هذه الأزمة ستغير قواعد اللعبة. حيث يقول: «عند انتهاء هذه الجائحة، آمل أن نأخذ باعتبارنا الاستثمار طويل الأمد في الصحة العامة. فعندما نتجاوز أزمة ما نقول «لنرحل، لقد انتهت المشكلة». في الواقع، يجب ألّا نكون في وضعٍ يسمح لمثل هذا الفيروس بأن يضربنا مرّة أخرى، ويجب أن نبذل جهدنا للتصدي له. ما نفعله الآن سيسجله التاريخ علينا».
الكاتبة: ريكي لويس، كاتبة علوم حاصلة على درجة الدكتوراه في علم الوراثة. لها العديد من الكتب والآلاف من المقالات العلمية والطبية.